Spanish actors Alvaro Morte (R) and Pedro Alonso (L) pose during a photocall for the presentation of Spanish TV show "La Casa…
"البروفيسور" وشقيقه خلال عرض ترويجي للمسلسل

مثلي مثل ملايين حول العالم، كنت مشدودا جدا نحو الجزء الأخير من المسلسل الإسباني "وقد صار عالميا" واسمه بالإسبانية  La casa de papel، ودرجت تسميته بتسميات مختلفة على منصة "نتفليكس" فكان اسمه بالعربية "البروفيسور!".

اسمه الأصلي، ربما يكون الأكثر دقة وقربا من فلسفة نجاح هذا العمل الضخم فالترجمة من الإسبانية للعنوان تصبح "بيت الورق".. وأي ورق؟

المفارقات وهي أيضا مصادفات مدهشة أن الجزء الأخير من المسلسل الذي عصف العالم، تزامن مع فيروس كورونا الذي اجتاح الكوكب، وهذا من حسن حظ منتجي العمل ومنصة نتفليكس التي تحولت إلى "خبز" الوقت الضائع، وهو وقت كبير في ظل حجر منزلي عام في معظم دول العالم، وشبه إغلاق شامل على مستوى الكرة الأرضية.

منصة نتفليكس، متخمة ـ وبكل اللغات الأصلية والمترجمة ـ بأعمال الإثارة والتشويق والإنتاجات القادرة على رفع منسوب الأدرينالين في الدم، وربما أكثر من مسلسل "بيت الورق" نفسه، لكن هذا العمل الإسباني تفوق إلى حد كبير بنسب المشاهدة حول العالم، والسبب لا يكمن في جرعات التشويق والإثارة والحركة فقط، بل في تلك الفكرة الكامنة فيه. المسلسل نفسه إن جاز التعبير، يحمل فيروس شديد العدوى، إذا التقطته مجسات المشاهد فسيتابعه بتعاطف شديد مع "عصابة اللصوص" وأمنيات متصاعدة مع كل مشهد بأن تفشل الشرطة، قد تصل إلى مرحلة أنك تشعر بألم جرح مفتوح لأحد أفراد العصابة، لكنك لا تأبه بالمطلق لمشهد احتراق رجل الأمن بالنار وهو يقتحم المصرف.

أي عالم بالضبط الذي سنستيقظ عليه صباح أول يوم بعد انتهاء أزمة كورونا؟ أي اقتصاديات "ورقية" ضخمة ستنهار؟

المسلسل نفسه لم يخف ذلك التعاطف "الجماهيري" من خلال المشاهد المتكررة منذ موسمه الأول حتى موسمه الأخير بتعاطف الناس المتظاهرة والمحتجة على "السلطة" لا على "العصابة" أمام البنك، بل إن الناس كانت دوما تحاول حماية "العصابة" نفسها.

لكن، واحد من المشاهد العديدة التي لا يمكن لأي متابع للمسلسل نسيانها، بل إن المشهد يغرس نفسه في المخيلة حتى العمق، هو مشهد تلك الأوراق النقدية المطبوعة وقد تم توضيبها بمصفوفات وبحجم هائل يجعلك تتساءل في النهاية:
ما هي القيمة الحقيقية فعلا لكل هذا الورق المطبوع؟ مجرد ورق وتمت طباعته بإتقان وجودة، أين القيمة؟

ما الذي يجعل ورقة "الخمسين" تلك.. تساوي الخمسين؟ خمسين ماذا بالضبط؟ ولك أن تتصاعد بالرقم حتى المليار نفسه ضمن ذات السؤال!

♦♦♦

بالنسبة لشخص يتابع ـ بحكم المهنة والعمل ـ الأخبار والتحليلات والتقارير وكم هائل من المحللين والخبراء يتحدثون عن العالم قبل وأثناء وبعد كورونا، فإنني لا بد سأنتبه إلى تلك التحليلات التي تتحدث عن حالة الاقتصاد العالمي، ورغم أني كنت سيئا جدا في دراسات الاقتصاد الأكاديمية، إلا أني حاولت جهدي لفهم ما يقوله الاقتصاديون طوال فترة أزمة كورونا.

لكن ـ مثل مشهد أكوام العملة المصفوفة بضخامة في المسلسل ـ فإن مشهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب وهو يوقع على مساعدات فدرالية بقيمة 2 تريليون دولار، جعلني أفكر كثيرا بالرقم، والمعنى والقيمة مرة أخرى.

(FILES) In this file photo taken on April 24, 2009, Iraqi architect Rifat Chadirji is pictured at his home office in the…
الجادرجي والعراق اليباب
بالنسبة للمعماري العراقي الراحل رفعت الجاردجي، الذي وافته المنية قبل أيام قليلة في العاصمة البريطانية لندن، كانت العمارة رؤية ووعيا فلسفيا، لنمط علاقة البشر ببعضهم وفهمهم لأحوالهم وقراءتهم لكامل الوجود، أكثر من كونها مهنة أو حرفة، أو حتى صنعة جمالية

2 تريليون دولار؟

بصراحة على ضعفي بلغة الأرقام الاقتصادية، إلا أنني لا أزال أتذكر أول ما تعلمته في أبجديات الاقتصاد في تعريف النقود، بأنها مخزن للقيمة، وأتساءل بيني وبين نفسي كل ما حضر مشهد ترامب وتوقيع التريلوينين من الدولارات، أن القيمة التي يجب أن تكون مخزونة في كل هذه الأوراق التي سيطبعها الأميركيون؟

أعود للقراءات والمراجع الاقتصادية فأجد أن الرئيس السابق نيكسون عام 1974، قد أوقف عملية تغطية الدولار بالذهب، يعني ببساطة أن الدولار مجرد ورق من القطن والكتان أخضر مطبوع.. لا أكثر، قيمته معتمدة حسب "قرار نيسكون" بمصداقية الدولة وقوتها الإنتاجية.

هنا أرتبك أكثر، لأني لا أجد القيمة!

وما ينطبق على الدولار ينطبق على باقي العملات، بما فيها اليورو الذي كنت أحمله في جيبي قبل أزمة كورونا، وصرت الآن أفتقده، وأدفعه رمزيا عبر بطاقة بلاستيكية تحدد ما أملكه وما هو مقيد على ذمتي من دين للبنك، الذي يحتفظ لي باليورو.. ولا أعرف بصراحة معيار قيمته.

♦♦♦

وعودا على بدء...

في مسلسل بيت الورق، أو البروفيسور (La casa de papel) ، الإسقاطات تتوالى، والمشاهدة تتصاعد، فنحن أمام قصة "تمرد" ثورية غير مسبوقة، هي ليست ثورة على نظام سياسي، ولا على السلطات الحاكمة مباشرة، بل هي حكاية بسيطة بدأها رجل ذكي ومثقف، ولديه وازع انتقامي شخصي فجمع عصابة من العاديين جدا، بلا أي أجندات، كل منهم يمكن أن يحمل سمات أي شخص فينا، ليضربوا في عمق النظام الرأسمالي (والاشتراكي أيضا.. فهؤلاء لديهم عملة وذهب كذلك).

ما هي القيمة الحقيقية فعلا لكل هذا الورق المطبوع؟ مجرد ورق وتمت طباعته بإتقان وجودة، أين القيمة؟

إنها ثورة في العقل الباطن على كل تلك التعقيدات التي بنتها وشيدتها "بيوت الورق" المالية في العالم، لنكتشف في النهاية وبحكاية سطو مسلح غاية في الإتقان، أن الورق ليس أكثر من ورق، وفي السطو الثاني نجد أنفسنا أمام الذهب، براق ومتوهج، كحالة تذكير بالقيمة الأساسية قبل كل تلك القصور الورقية الضخمة التي بنينا العالم عليها، وها هي معرضة للانهيار في لحظة مواجهة مع فيروس.

أي عالم بالضبط الذي سنستيقظ عليه صباح أول يوم بعد انتهاء أزمة كورونا؟ أي اقتصاديات "ورقية" ضخمة ستنهار؟

ما بعد ذلك الصباح المفترض، أتساءل ببساطة وبدون تعقيدات وفذلكات، هل سنعيد ترتيب العلاقات الإنسانية بما فيها "الاقتصادية" بما يتناسب تماما مع إنسانيتنا؟ هل سيتوقف العبث ونظام التفاهة الذي توغلنا فيه حد الغرق؟

هل يمكن أن نستوعب أن ورق "البنكنوت" حتى لو طبعنا منه ألف ترليون، لن يكفي لرشوة فيروسات متناهية الصغر؟ ربما لو أعدنا حسابات القيمة للأشياء، فإن ورق بحث علمي يبحث في طرق العلاج أكثر قيمة من كل ورق العملة المطبوع بأناقة.

أي عالم بالضبط سنستيقظ عليه حين نخرج من الكهف؟

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.