مثلي مثل ملايين حول العالم، كنت مشدودا جدا نحو الجزء الأخير من المسلسل الإسباني "وقد صار عالميا" واسمه بالإسبانية La casa de papel، ودرجت تسميته بتسميات مختلفة على منصة "نتفليكس" فكان اسمه بالعربية "البروفيسور!".
اسمه الأصلي، ربما يكون الأكثر دقة وقربا من فلسفة نجاح هذا العمل الضخم فالترجمة من الإسبانية للعنوان تصبح "بيت الورق".. وأي ورق؟
المفارقات وهي أيضا مصادفات مدهشة أن الجزء الأخير من المسلسل الذي عصف العالم، تزامن مع فيروس كورونا الذي اجتاح الكوكب، وهذا من حسن حظ منتجي العمل ومنصة نتفليكس التي تحولت إلى "خبز" الوقت الضائع، وهو وقت كبير في ظل حجر منزلي عام في معظم دول العالم، وشبه إغلاق شامل على مستوى الكرة الأرضية.
منصة نتفليكس، متخمة ـ وبكل اللغات الأصلية والمترجمة ـ بأعمال الإثارة والتشويق والإنتاجات القادرة على رفع منسوب الأدرينالين في الدم، وربما أكثر من مسلسل "بيت الورق" نفسه، لكن هذا العمل الإسباني تفوق إلى حد كبير بنسب المشاهدة حول العالم، والسبب لا يكمن في جرعات التشويق والإثارة والحركة فقط، بل في تلك الفكرة الكامنة فيه. المسلسل نفسه إن جاز التعبير، يحمل فيروس شديد العدوى، إذا التقطته مجسات المشاهد فسيتابعه بتعاطف شديد مع "عصابة اللصوص" وأمنيات متصاعدة مع كل مشهد بأن تفشل الشرطة، قد تصل إلى مرحلة أنك تشعر بألم جرح مفتوح لأحد أفراد العصابة، لكنك لا تأبه بالمطلق لمشهد احتراق رجل الأمن بالنار وهو يقتحم المصرف.
أي عالم بالضبط الذي سنستيقظ عليه صباح أول يوم بعد انتهاء أزمة كورونا؟ أي اقتصاديات "ورقية" ضخمة ستنهار؟
المسلسل نفسه لم يخف ذلك التعاطف "الجماهيري" من خلال المشاهد المتكررة منذ موسمه الأول حتى موسمه الأخير بتعاطف الناس المتظاهرة والمحتجة على "السلطة" لا على "العصابة" أمام البنك، بل إن الناس كانت دوما تحاول حماية "العصابة" نفسها.
لكن، واحد من المشاهد العديدة التي لا يمكن لأي متابع للمسلسل نسيانها، بل إن المشهد يغرس نفسه في المخيلة حتى العمق، هو مشهد تلك الأوراق النقدية المطبوعة وقد تم توضيبها بمصفوفات وبحجم هائل يجعلك تتساءل في النهاية:
ما هي القيمة الحقيقية فعلا لكل هذا الورق المطبوع؟ مجرد ورق وتمت طباعته بإتقان وجودة، أين القيمة؟
ما الذي يجعل ورقة "الخمسين" تلك.. تساوي الخمسين؟ خمسين ماذا بالضبط؟ ولك أن تتصاعد بالرقم حتى المليار نفسه ضمن ذات السؤال!
♦♦♦
بالنسبة لشخص يتابع ـ بحكم المهنة والعمل ـ الأخبار والتحليلات والتقارير وكم هائل من المحللين والخبراء يتحدثون عن العالم قبل وأثناء وبعد كورونا، فإنني لا بد سأنتبه إلى تلك التحليلات التي تتحدث عن حالة الاقتصاد العالمي، ورغم أني كنت سيئا جدا في دراسات الاقتصاد الأكاديمية، إلا أني حاولت جهدي لفهم ما يقوله الاقتصاديون طوال فترة أزمة كورونا.
لكن ـ مثل مشهد أكوام العملة المصفوفة بضخامة في المسلسل ـ فإن مشهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب وهو يوقع على مساعدات فدرالية بقيمة 2 تريليون دولار، جعلني أفكر كثيرا بالرقم، والمعنى والقيمة مرة أخرى.
2 تريليون دولار؟
بصراحة على ضعفي بلغة الأرقام الاقتصادية، إلا أنني لا أزال أتذكر أول ما تعلمته في أبجديات الاقتصاد في تعريف النقود، بأنها مخزن للقيمة، وأتساءل بيني وبين نفسي كل ما حضر مشهد ترامب وتوقيع التريلوينين من الدولارات، أن القيمة التي يجب أن تكون مخزونة في كل هذه الأوراق التي سيطبعها الأميركيون؟
أعود للقراءات والمراجع الاقتصادية فأجد أن الرئيس السابق نيكسون عام 1974، قد أوقف عملية تغطية الدولار بالذهب، يعني ببساطة أن الدولار مجرد ورق من القطن والكتان أخضر مطبوع.. لا أكثر، قيمته معتمدة حسب "قرار نيسكون" بمصداقية الدولة وقوتها الإنتاجية.
هنا أرتبك أكثر، لأني لا أجد القيمة!
وما ينطبق على الدولار ينطبق على باقي العملات، بما فيها اليورو الذي كنت أحمله في جيبي قبل أزمة كورونا، وصرت الآن أفتقده، وأدفعه رمزيا عبر بطاقة بلاستيكية تحدد ما أملكه وما هو مقيد على ذمتي من دين للبنك، الذي يحتفظ لي باليورو.. ولا أعرف بصراحة معيار قيمته.
♦♦♦
وعودا على بدء...
في مسلسل بيت الورق، أو البروفيسور (La casa de papel) ، الإسقاطات تتوالى، والمشاهدة تتصاعد، فنحن أمام قصة "تمرد" ثورية غير مسبوقة، هي ليست ثورة على نظام سياسي، ولا على السلطات الحاكمة مباشرة، بل هي حكاية بسيطة بدأها رجل ذكي ومثقف، ولديه وازع انتقامي شخصي فجمع عصابة من العاديين جدا، بلا أي أجندات، كل منهم يمكن أن يحمل سمات أي شخص فينا، ليضربوا في عمق النظام الرأسمالي (والاشتراكي أيضا.. فهؤلاء لديهم عملة وذهب كذلك).
ما هي القيمة الحقيقية فعلا لكل هذا الورق المطبوع؟ مجرد ورق وتمت طباعته بإتقان وجودة، أين القيمة؟
إنها ثورة في العقل الباطن على كل تلك التعقيدات التي بنتها وشيدتها "بيوت الورق" المالية في العالم، لنكتشف في النهاية وبحكاية سطو مسلح غاية في الإتقان، أن الورق ليس أكثر من ورق، وفي السطو الثاني نجد أنفسنا أمام الذهب، براق ومتوهج، كحالة تذكير بالقيمة الأساسية قبل كل تلك القصور الورقية الضخمة التي بنينا العالم عليها، وها هي معرضة للانهيار في لحظة مواجهة مع فيروس.
أي عالم بالضبط الذي سنستيقظ عليه صباح أول يوم بعد انتهاء أزمة كورونا؟ أي اقتصاديات "ورقية" ضخمة ستنهار؟
ما بعد ذلك الصباح المفترض، أتساءل ببساطة وبدون تعقيدات وفذلكات، هل سنعيد ترتيب العلاقات الإنسانية بما فيها "الاقتصادية" بما يتناسب تماما مع إنسانيتنا؟ هل سيتوقف العبث ونظام التفاهة الذي توغلنا فيه حد الغرق؟
هل يمكن أن نستوعب أن ورق "البنكنوت" حتى لو طبعنا منه ألف ترليون، لن يكفي لرشوة فيروسات متناهية الصغر؟ ربما لو أعدنا حسابات القيمة للأشياء، فإن ورق بحث علمي يبحث في طرق العلاج أكثر قيمة من كل ورق العملة المطبوع بأناقة.
أي عالم بالضبط سنستيقظ عليه حين نخرج من الكهف؟