Russian President Vladimir Putin, Defence Minister Sergei Shoigu and Syrian President Bashar al-Assad attend a meeting in…
بوتين "مستقبلا" الأسد في دمشق

اتهمت "منظمة حظر الأسلحة الكيميائية"، نظام الرئيس السوري بشار الأسد بتنفيذ هجومين كيميائيين بغاز السارين المحظور، ضد سوريين في اللطامنة في حماة، في 24 مارس 2017، والثلاثين منه، وأنه بين الهجومين، شنّت قوات الأسد هجوما آخر بغاز الكلورين، في 25 من الشهر نفسه. 

وقالت المنظمة، في بيان، إن تحقيقاتها لا تحمل طابعا قضائيا، وأنه لا يمكنها تحديد المسؤوليات الجزائية ضد المرتكبين. لكن المنظمة أضافت أنه "لم تكن هذه الهجمات ذات الطبيعة الاستراتيجية لتحصل بدون أوامر من جهات رفيعة المستوى في القيادة العسكرية للجمهورية العربية السورية"، وأنه "يمكن تفويض السلطة، ولكن لا يمكن تفويض المسؤولية"، أي أن الأسد، كرئيس السلطة السورية، يتحمل مسؤولية الهجوم، حتى لو لم يأمر به.

والبيان هو وثيقة رسمية أممية تثبت تورط الأسد في هجمات بالأسلحة الكيميائية المحظورة ضد شعبه، حتى لو حاولت وسائل الدعاية التابعة للأسد وروسيا وإيران التضليل وبث الشك حول مسؤولية الأسد المؤكدة عن الهجمات. وكان الهجوم الكيميائي الأول، والأكبر، شنته قوات الأسد ضد الغوطة، ضاحية دمشق، في أغسطس 2013، وأسفر عن مقتل 1429 سوريا، حسب بيان صدر وقتذاك عن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما.

منذ اليوم الأول لخلافته الراحل حافظ الأسد، لم يفهم بشّار كيف تعمل منظومة الرعب التي أدارها والده

واضطرت فداحة مجزرة الغوطة أوباما إلى الإعداد لتوجيه ضربة عسكرية ضد الأسد، قبل أن تتدخل موسكو وتقنع واشنطن بصفقة، تم تكرسيها بقرار صدر عن مجلس الأمن قام بموجبه الأسد بالانضمام إلى "منظمة حظر الأسلحة الكيميائية"، وتسليمها ترسانته، فأتلفتها. لكن الرئيس السوري يبدو أنه حافظ على كمية ما من الكيميائي، وهو ما أثبته هجوم مقاتلاته، سوخوي الروسية، وإلقائها قنابل غاز السارين على اللطامنة.

مع الإثبات الأممي، استحق الرئيس السوري لقب بشار الكيماوي، على غرار علي الكيماوي، أو علي حسن المجيد، ابن عم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. وكان علي اكتسب لقبه بعدما قاد الهجوم الكيماوي الشهير على قرية حلبجة الكردية في العراق. وفي وقت لاحق، أرسل علي الكيماوي مروحياته لإلقاء طحين على الكرد، ما أجبرهم على اللجوء إلى الجبال هربا مما اعتقدوه هجوما كيميائيا جديدا. الطحين كان شقاوة، إذ هكذا هو حس الدعابة لدى "حزب البعث العربي الاشتراكي"، بفرعيه العراقي والسوري.

في الأربع السنوات التي فصلت بين هجوم بشار الكيماوي الأول على الغوطة، وهجومه الكيماوي الثاني على اللطامنة، تغير ميزان القوى على الأرض، إذ كان الأسد متقهقرا عسكريا، ولجأ لاستخدام أسلحة محظورة لتحسين وضعه، لكن الوضع كان انقلب لمصلحة الأسد في العام 2017، خصوصا بعدما تدخلت روسيا عسكريا في سبتمبر 2015، ودعمت التدخل الإيراني، الذي كان يجري على قدم وساق منذ الأيام الأولى للثورة السورية التي اندلعت في مارس 2011.

A displaced Syrian woman and her daughter visits a grave of a relative in the town of Ariha in the northern countryside of…
تطبيع العلاقة التركية ـ الكردية لمواجهة كورونا في سوريا
مع مرور الذكرى التاسعة لبدء الثورة السورية، فإن أي جردة حساب لما أنجزته الثورة السورية تشير إلى أن الأمر الثابت هو أن سوريا تحولت إلى أرض تتنافس عليها الدول القريبة والبعيدة وباتت حقل تجارب لمشاريع وأفكار متناقضة تمول من الخارج وتعتاش على دماء السوريين

لماذا استخدم الأسد، إذن، غاز السارين، على الرغم من تحسن وضعه مع دعم روسيا وإيران له؟ الإجابة تكمن في نوع ومناطق التدخل، فإيران أرسلت ميليشياتها للسيطرة على المناطق التي تمتد من حوض الفرات إلى دمشق فبيروت، مع محاولتها السيطرة على الجنوب السوري المحاذي لإسرائيل، للاستعاضة به عن جنوب لبنان، الذي صار يستحيل ابتزاز إسرائيل عبره بدون تكلفة باهظة للبنان و"حزب الله".

هذا يعني أن إيران لم تكن مهتمة بمناطق مثل اللطامنة في حماة، وعدم مشاركة إيران يعني نقص في عدد المقاتلين، وهو ما يعاني منه الأسد، إذ أن الدعم الروسي يقتصر على دعم جوي وعصابات مرتزقة تقاتل كقوات خاصة، وهذه أعدادها قليلة. النقص في العديد هو الذي دفع الأسد لاستخدام أسلحة دمار شامل لاستعادة مناطق بأقل عدد ممكن من المقاتلين، مثل في اللطامنة.

كل هذه التفاصيل أصبحت ملكا للتاريخ. ما يهم اليوم هو أن الأسد خسر السيطرة على المناطق التي تمسك بها إيران، في الجنوب والوسط، وخسر معظم وادي الفرات الذي يسيطر عليه الأميركيون والقوات الكردية، ويسيطر على جيب سوري بمساندة روسية، لكنها مساندة لا تعني الندية بين الأسد ورئيس روسيا فلاديمير بوتين، وهو ما بدا جليا في عدد من زيارات الرئيس الروسي إلى سوريا. في واحدة منها أمسك جندي روسي الأسد من ذراعه ومنعه من اللحاق ببوتين لوداعه على باب الطائرة، وفي زيارة أخرى جلس بوتين في قاعدة روسية في سوريا مع صوره وضباطه، وبدا الأسد كالتلميذ بين أيدي معلمه.

خسر بشار لبنان أولا، وسوريا ثانيا، وصار سيادة رئيس على دولة بلا سيادة، يحكم ركام، مع لقب لن يفارقه ولو بعد زمن: بشار الكيماوي

أما بوتين، فهو استولى على سوريا لسببين. الأول لاعتقاده أنه يمكنه أن يصورها كواحدة من انتصارات الأمة الروسية بقيادته حول العالم، والثاني لإجراء مبادلة مع الغرب، فإن اعترفت أميركا وحلفاؤها بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم الأوكرانية، تقدم موسكو الأسد للغربيين ثمنا لذلك. على أن العواصم الغربية لا تبدو مهتمة بالمبادلة مع بوتين، في الغالب بسبب تدنى الأهمية الاستراتيجية لسوريا إلى حد العدم، ما يعني أن الرئيس الروسي استولى على دولة ركام، يديرها رئيس "صار مسموما" في العلاقات الدولية بسبب استخدامه أسلحة كيميائية.

منذ اليوم الأول لخلافته الراحل حافظ الأسد، لم يفهم بشّار كيف تعمل منظومة الرعب التي أدارها والده. الأسد الأب كان يلعب على التناقضات دائما: حليف الاتحاد السوفياتي ويستقبل رؤساء الولايات المتحدة في سوريا، حليف إيران وفي نفس الوقت صديقا للدول العربية. في الداخل، أمسك الأسد بملفات فضائحية على كل من يعمل لديه، وكان يرعى منافسي أزلامه على قاعدة "فرّق تسد"، إن داخل أجهزته الاستخباراتية، أو بين زعماء العشائر السورية، أو بين السياسيين اللبنانيين. كل من كان يتمتع بسطوة كانت بفضل الأسد الأب، وكل من حاول استخدام سطوته ضد حافظ، أسقطه الأب، إما فضائحيا، أم انتحارا، أم بحوادث تفجيرية. 

أما بشار، فاعتقد أن سلطته مطلقة، وأنه يكفيه أن يهدد أو يقتل حتى تستقيم الأمور. خسر بشار لبنان أولا، وسوريا ثانيا، وصار سيادة رئيس على دولة بلا سيادة، يحكم ركام، مع لقب لن يفارقه ولو بعد زمن: بشار الكيماوي.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.