Kuwaiti volunteers wear protective masks as they fill charity boxes with essential household supplies to distribute to the…
متطوعات كويتيات يحضرن سلال من المساعدات لتوزع على من هم بحاجة

إحدى أهم وسائل الحد من انتشار الإصابة بفيروس كورونا، إن لم تكن الوسيلة الأهم على الإطلاق، هي سياسة التباعد الاجتماعي. هذه الوسيلة كشفت جوانب مهمة في مجتمعاتنا، لكنها كذلك صرحت عن الطريقة الفكاهية والخطرة التي يُمنطق بها البشر عموما، بوعي أو بلا وعي، تصرفاتهم وتحركاتهم ليحققوا أهدافهم ويسعدوا ذواتهم.

في مقاربة قد تبدو بعيدة بين طريقة انصياع الإنسان لتعاليمه الدينية وطريقة انصياعه الحالية للتعاليم الصحية، يظهر لنا كيف أن الإنسان يكيّف تفكيره فيعمل جانبا من العقل ويطفئ جانب، أو كيف يفعّل الأداة الانتقائية في عقله، لربما حتى دون وعي منه، تحقيقا لأهدافه وإسعادا لنفسه. 

المثال الديني هو الأقوى والأوضح بين الأمثلة الإنسانية على انتقائية العقل البشري، حيث دوما ما يعمد البشر للالتفاف حول ما يعتقدونه خطيئة، ويكيّفونه بصورة أو بأخرى ليصبح مقبولا، وأحيانا مستحبا، تحت ظروف وشروط معينة، والفتاوى التي تخدم هذا التوجه لا تعد ولا تحصى. 

على سبيل المثال، في ظاهرة مستجدة نسبيا في المجتمعات المحافظة بين العائلات المتدينة، انتشرت فكرة استخدام "الدي جي الإسلامي" في الأفراح والحفلات والتي من خلالها تقوم سيدة بالغناء المصاحب بالموسيقى والإيقاع أحيانا، أو بلا أي مصاحبة (حسب درجة الالتزام)، مستخدمة أغنيات شهيرة وألحان معروفة، حيث تقوم باستبدال كلمات هذه الأغنيات بكلمات دينية أو دُعائية. المناسبات القليلة المشابهة التي حضرتها قد أبهرتني تماما. فمن جهة، ألم تتساءل المدعوات من أين لهذه المؤدية المتدينة المعرفة بالأغنيات والألحان؟ ومن جهة أخرى، هل هو من التدين الإسلامي في شيء التصفيق والتمايل والتغنج والرقص بكامل الزينة الثيابية والتجميلية على وقع كلمات دينية يذكر من خلالها اسم الخالق والأنبياء والصحابة وغيرهم؟ لا زلت أتذكر كلمات هذه الأنشودة التي قامت تتمايل وترقص عليها الفتيات مكتملات التأنق والزينة والتي تقول "ضريحك يا بو حسين عجبني عجب؟ الشباك من فضة والقبة ذهب". التفت إلى الصديقة الجالسة بجانبي وسألتها "قالت ضريحك؟" أجابت "نعم، نقوم نرقص؟".

آخرون يشيرون إلى أن زيارة الأهل هو واجب اجتماعي وديني لا يمكن التخلي عنه، غير واعين إلى أن المحافظة على حيوات هؤلاء هو واجب أكبر

أعتقد أنا أن ذات هذا العقل البشري، الذي أحوزه أنا أيضا بالطبع وأصارعه كل يوم، الذي كيّف المعادلة الدينية بفتاوى شرعية هو اليوم يكيّف المعادلة الصحية بفتاوى اجتماعية طبية. بخلاف عاداتنا الشرقية المجتمعية التي تصعب عملية التباعد الاجتماعي والتي يساهم في تصعيبها أحيانا أكثر الناس قربا. فالطريقة التي يبرر بها الناس تخالطهم تبدو أنها قادمة من ذات المنطقة الكوميدية اللامنطقية لتبرير "الدي جي الإسلامي" مع علم المبررين بوعورة المنطقة التي يتجولون فيها، فتبرير الخطيئة كما تبرير الخطورة، لهما تبعات هائلة لمن يعتقد حقيقة بهما، إلا أن هذه التبعات دوما ما تكون مؤجلة في العقول. 

يشير البعض إلى أن تخالطهم يقتصر على الوالدين وأنه لا يمكن أن ينتقل الفيروس من الوالدين أو إليهما وكأن أواصر الدم والمحبة هي وقاية كافية. آخرون يشيرون إلى أن زيارة الأهل هو واجب اجتماعي وديني لا يمكن التخلي عنه، غير واعين إلى أن المحافظة على حيوات هؤلاء هو واجب أكبر. البعض الآخر يقول بقصر مدة الزيارة، وكأن الأذى الممكن في نصف ساعة يختلف عن الأذى الممكن في ساعتين، لربما نصف فيروس ينتقل في نصف ساعة، ونصف فيروس أهون من كله.

كذلك، هناك غياب فكرة تتبع قطار المتخالطين أو ضبابيتها، ومن لا تفوتهم الفكرة لا يرغبون أصلا باللحاق بها. إحدى القريبات قالت لي تعقيبا على مناشدتي لها بأخذ الحيطة والحذر وذلك تتبعا لقطار مخالطيها: "لا يمكن التفكير بهذه الصورة، هذا تعذيب وسيسبب لي تشويشا لا يمكن تحمله". في حين علق آخر عبر تويتر "أنتحر أحسن". 

وعلى قدر ما نقرأ من مناشدات وتوضيحات من الكوادر الطبية بالأهمية العظيمة الفاصلة بين الحياة والموت للتباعد الاجتماعي، مع توضيحهم أن مفهومه هو القطع التام للزيارات، والتخالط فقط مع من يعيش معك بالبيت، والخروج فقط للضرورة "البقائية" القصوى، ومع تبيانهم أن الهدف من هذا التباعد هو ليس الحد من العدوى بقدر ما هو الإبطاء من انتشارها، فإن العموم لا يود أو لا يستطيع استيعاب المفهوم بكامل حقيقته، مخلصين المحاولة في إقناع أنفسهم أن "هذه الخروجة" لن تحدث فرقا، دون استيعاب حقيقي إلى أن كل تخالط هو طلقة "راشن روليت"، يا تصيب يا تخيب.

بكل تأكيد هناك عوامل تطمينية نفسية عدة أخرى لهذا التهاون الحادث في المجتمعات الإنسانية الأقل تضررا على الرغم من شهود هذه المجتمعات للدمار الواقع في المناطق الأخرى. ربما أهم هذه العوامل هو هلامية ولا مرئية الخطر. فالفيروس يمكن أن يكون ساكنا في الأجساد دون أن يظهر نفسه. 

في الكويت مثلا، وإلى تاريخ كتابة هذا المقال، انخفاض أعداد المصابين بين الكويتيين تشعرهم بالأمان على الرغم من ارتفاع أعداد المصابين الأجانب مما يدفع بسيطرة هذا الشعور الوهمي بالأمان وكأن الفيروس محكوم بعرق أو انتماء. 

هناك كذلك غموض فكرة قطار المخالطين كما ذكرت أعلاه، والذي هو قطار موجود في حياة حتى أكثرنا انعزالا. على سبيل المثال، لم أخرج أنا من بيتي لقرابة شهر إلا مرة واحد فقط لشراء الطعام من السوق المركزي، إلا أن لدي قطار طويل خطير من المخالطين؛ فابنتي لا تزال تزاول عملها، كل من تختلط بهم وكل من يختلط بمخالطيها هم، بدرجة أو بأخرى يختلطون بي. كل من يختلط بزوجي حين يخرج سريعا لشراء حاجيات البيت وكل من يختلط بمخالطيه، هم مخالطين لي بدرجة أو بأخرى. إذا قمت بزيارة والداي، فأنا آتي بهذا القطار الطويل الضخم إلى عقر دارهم. 

يشير البعض إلى أن تخالطهم يقتصر على الوالدين وأنه لا يمكن أن ينتقل الفيروس من الوالدين أو إليهما وكأن أواصر الدم والمحبة هي وقاية كافية

هذه الفكرة البعيدة التتبعية صعبة المواكبة، فالقطار يبدو هلامي ولا نهائي، وهو حقيقة كذلك، إلا أن ما يوقف سكته الخطرة، هو تقليل تخالطنا إلى الحد الأدنى الممكن.

ربما مقاربتي بين المخالطين وأصحاب "الدي جي الإسلامي" هي بعيدة، وضعيفة وتبدو متعمدة، وهي كذلك بالفعل. الفعلان، بالنسبة لي، لا رابط حقيقي بينهما سوى أنهما ساذجين غريبين الأسباب، كلاهما يبدو مثالا حيا على التوجه التبريري الكوميدي لما هو غير منطقي (في الحالة الصحية) أو غير مقبول (في الحالة الدينية) من رغبات الإنسان. 

حين نرغب في شيء، فإننا نعتمد أغرب وأغبى (أعتذر عن التعبير) وأبعد وأكثر التبريرات كوميدية للتخفيف عن أنفسنا وتحقيق رغباتنا. إلا أن التخالط يثير فوق كل ذلك الغضب والسخط، فالتخالط ليس أمرا شخصيا ولا اختيارا فرديا، كل من يختلط ويكسر حواجز العزل يعرضنا جميعا بلا استثناء لخطر محيق ويضعنا جميعا على قضبان قطاره الطويل المتسارع.

ربما المقال بحد ذاته غير منطقي، أعلم ذلك، ولكن ما المنطقي هذه الأيام في حياتنا؟ إذا الصين ودول شرق آسيا تنتصر باشتراكياتها المتعسفة، وأوروبا وأميركا تسقط بديمقراطيتها المتحررة، إيطاليا تفقد ما يقرب من العشرين ألف روح ومصر "مصرة" أنها خالية نسبيا من الوباء، ماذا بقي من المنطق؟

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.