عندما يتحقق الإنجاز، حين يتضح الإبداع، يمتنع الإنكار، ويحصل الإقرار. رفعة الجادرجي أنجز وأبدع، لعراقه ولعالمه.
في الإعلام، وعلى مختلف وسائط التواصل الاجتماعي، والتي عادة ما تنضح بالإسقاط والتجريح، الغالب في التعليقات حول وفاته هو التقدير والاحترام. يبدو أن هذا الراحل، بميراثه الباقي، قد صحّح بعض ما اعتل.
وإذا كان ثمة من لا يروقه بعض ما رآه هذا المعماري الكبير والمفكّر الفذ والناشط الكريم فإن اعتراضه يبقى همسا وحسب، لا يعكّر صفو الحِداد.
رحيل رفعة الجادرجي هو لحظة تأمل واعتبار، استحقها الرجل، ويستوجبها القرن، أو ما يقارب، والذي عاشه وعايشه. قرن الأمل، وخيبة الأمل. قرن التعويل على التقدم والتطور والعلم، وقرن الإمعان بالغيبية والأهوائية والعقائدية. من هذا القرن الملتبس، اختار رفعة الجادرجي الأمل والعلم. بإصرار، بل بقطعية.
اسمه هو "رفعة"، وليس "رفعت". كان قوله: لفظها كما العادة مع إظهار التاء، ولكن كتابتها بالعربية، لا التركية!
العراق هو أصل الحضارة. لا بمقياس الجوار والمنطقة، بل على مستوى العالم ككل. ليس أن الحضارة لم ترَ النور من بعده خارجه. فالصين أنتجتها دون عودة إلى العراق. وكذلك بزغت حضارة المايا في أميركا الوسطى، وإن اندثرت لاحقا بفعل الغزو والتدمير. أما ما عدا هذه وتلك، فالحضارة في العالم أجمع تعود بأشكالها وأطرها ورموزها وأحرفها إلى هذا العراق بين النهرين.
ليس أن العراق بقي القلب النابض للحضارة العالمية التي أشرقت منه. بل كان قلب الحضارة جوالا، يغرّب طورا لحقبات تطول ويجنح شرقا لوهلات تكاد اليوم ذكراها أن تغيب، في ترحال يبدو أنه تعب في القرون الماضية فكاد أن يستقر في الغرب. على أن الغرب غرب، لأنه غرب العراق.
وهذا العراق، وإن طال سباته، يستفيق بين الحين والآخر ليذكّر العالم بأصوله. وَمَضَ في أواسط القرن الماضي، ليطلق العنان لزخم فني ثم معماري، خارج عن سياق تغليب الكلمة على حساب الصورة، والمعنى على حساب الرمز، والوعي على حساب الروح.
رفعة الجادرجي هو نتاج هذه الومضة. وكذلك محمد مكية. وكذلك زها حديد. إضافات معمارية من أرض الرافدين للأرض جمعاء.
رفعة الجادرجي، إذ أبصر النور في عراق ناهض يعتنق الحضارة التي كان أول من أعلاها، أبصر الأنوار في الغرب الذي اعتلى بها، فجاءت مساهمته لتعارض بين هذا وذاك، ولتوافق بين هذا وذاك. هو هنا ابن عراق متصالح مع الغرب. ولكنه أولا ابن والده، كامل الجادرجي.
أهمية كامل الجادرجي في تاريخ العراق الحديث هي في دعوته إلى وطنية سابقة لأي طرح يتجاوزها. في زمن كانت الدولة الوطنية فيه، في نظر العديدين، وليدة استعمار يسعى إلى تفتيت كلٍ غير متضح السمات والملامح (قومي؟ ديني؟ مكاني؟ ولائي؟)، كانت، بالنسبة لكامل الجادرجي، هي الإطار الواقعي البنّاء للسير قدما، دون أن ينتفي التواصل مع ما عداها، ودون أن ينقطع التعاقب مع ما سبقها.
ما التزم به كامل في الفكر والسياسة، مارسه ابنه رفعة في التصميم والمعمار. إبداعه يمد الأيدي ليبقى ممسكا بالتراث زمانيا ومتآلفا مع الآخر في الخارج مكانيا، ولكنه لا يخسر مادته وما تقتضيه، ولا صوته وصورته، بل يأتي تعبيرا ناضجا حديثا عن أصالة متجددة.
حتى في المعمار، ثمة من يختلف، بين من يرى بأن التأصيل قاصر، ومن يعتبر أنه في استدعاء الخارج تقصيرا.
على أن الميراث الأول من كامل لابنه هو أنه قد أتاح له التفكير والاعتبار خارج الأطر القائمة.
العراق هو أصل الحضارة. لا بمقياس الجوار والمنطقة، بل على مستوى العالم ككل
عند المقارنة بين ثبات الإسلام في المجتمعات التي يغلب انتشاره فيها، وتراخي المسيحية في الغرب مثلا، يطيب للعديد من المفكرين المسلمين الإشارة إلى الزخم الإيماني السائد في أوساط المسلمين، والناتج عن القناعة بصواب هذا الدين، كسبب رئيس لنجاح الإسلام حيث فشل غيره. لا حاجة لنقد هذه المقولة أو نقضها. على أنه ثمة ما يصلح بديلا عنها، أو على الأقل يتممها، وهو مدى الاستثمار الذي تقتضيه الأشكال السائدة من الدين الإسلامي، من كل مسلم، في الوقت والجهد والسلوك، ما يضمن الالتزام والثبات، بغضّ النظر عن المحتوى، إذ في الشك والتراجع إقرار بهدر هائل يصعب على معظم الناس القبول به.
القرن الماضي لم يأتِ بالجديد في شأن اقتصار الالتزام الديني الأقصى على القلة. فهذا هو حال الناس على مدى العصور. جديد القرن الماضي، بمساهمة من أنوار الغرب والتي جاءت إلى "الشرق" لتؤكد المستتب وتمنحه لغة التعبير، هو أن التصريح بغياب الإيمان لم يعد إعلانا بالخروج عن الجماعة. وجديده أيضا بأنه ثمة جيل قد نشأ دون الإيغال بالاستثمار الذي يقتضي الذب دون اعتبار. فالجماعة بالأمس، إذ كان زعم تعريفها يصرّ، اختزالا وتعسفا، على أنها جماعة قائمة على الدين والإيمان، لم تخلُ قط من اعتبارات العصب والنسب والجوار والمصلحة، مهما كانت الصيغة التي يجري ضمنها تضويب هذه الاعتبارات. أما الجماعة مع قيام الدولة الوطنية، فلم تعد قائمة على زعم الوحدة الإيمانية، بل واقع الوحدة المكانية.
رفعة الجادرجي، إذ أعلن رفضه للإيمان بالغيبيات والأديان، دون تحفظ والتفاف، وإذ مارس الخير والإحسان بسلوكه وتفاصيل حياته، يعكس النتاج غير القابل للإعادة لهذا القرن.
ليس هذا النتاج "نشر الإلحاد" (على الالتباس بمعنى كلمة الإلحاد والتي تقتصر في الاستعمال الاصطلاحي الإسلامي على نفي النبوة، لا للإله، والتي تقوم اليوم مقام مصطلحات أكثر دقة وأقل انتشاراً، الدهرية، اللاإلهية، اللاأدرية، اللافقهية، وغيرها). هذا النتاج هو وحسب الإقرار بأن وجود المسجد أو الكنيسة أو المعبد في بلدة أو تجمع سكني لا يعني الإجماع في أوساط السكان على الإيمان. بل الحقيقة الدائمة، أمس واليوم وغدا، هي أن البعض مؤمن وسوف يستمر على إيمانه مهما تكاثر التشكيك بقناعاته، والبعض رافض للإيمان ولن يرغم عليه مهما ارتفع التهديد بسوء العاقبة.
لا شك أن رفعة الجادرجي كان قطعيا في رفضه للإيمان. على أن القطعية سمة شخصية له وحسب. أستعيد هنا حادثة رواها لي الراحل حول اعتراضه إذ كان شابا على شعيرة دينية لإحدى قريباته، في حضور والده، فما كان من كامل الجادرجي إلا أن نبّه ابنه إلى وجوب التواضع والاحترام، وإلى أن القناعات عرضة للنقد لا للتسفيه.
كامل الجادرجي كان هو أيضا من أصحاب الفكر الحر. جالس معروف الرصافي وعمل على تدوين كتاب "الشخصية المحمدية"، وهو محاولة استشفاف لنشأة الإسلام، محكومة بالتوجهات الفكرية التي كانت شائعة في منتصف القرن العشرين.
ولكن رفعة الجادرجي، إذ التزم توجيهات والده على مدى حياته، لم يفهم التواضع على أنه الرضوخ. واقعة أخرى من حديثه تكشف عن أسلوبه في التعامل مع الآخر، إذ يمنح الاحترام ويطالب به في آن واحد.
كان رفعة الجادرجي قد دعي لإلقاء محاضرة في إحدى الجامعات الأردنية، ومحاضراته مشهورة بطول مدتها وعمق مضمونها، وما تقتضيه من حاجة للتركيز من جانب المحاضر والحضور في آن واحد. وصادف أن المحاضرة كانت في شهر رمضان. وصل رفعة الجادرجي إلى المنبر، وكاد أن يهمّ بإلقاء المحاضرة، إذ لاحظ غياب كوب الماء. طلب من المعدّين أن يحضروه له. رفضوا، مشيرين إلى أن الوقت هو وقت صيام، ولا بد من مراعاة الصائمين. هل هي مراعاة طوعية، أم هل هي حكم مفروض؟ أما أن يحضر كوب الماء، وألقي المحاضرة، أو أن يغيب كوب الماء ولا محاضرة. حضر كوب الماء، وفي وسط المحاضرة الطويلة، شرب منه رفعة الجادرجي.
أستاذ رفعة، لمَ الإصرار؟ جوابه أن المسألة ليست تحديا، بل هي دوما اختيار وموازنة للاعتبارات. هو لم يطالب أحد بألا يصوم ولا أرغم أحد أن يأتي للاستماع إليه. أما أن يطالب هو بأن يعطش، ليوهم من يريد هذا الوهم أنه صائم، فهو أمر لا يقبله.
حياة رفعة الجادرجي، وإنجازه، وفكره، ومواقفه، هي الدليل على أن الحضارة مستمرة
رفعة الجادرجي كان صارما في تنظيمه لحياته، كصرامته في ترتيبه لأفكاره، مدركا لموقعه عند تقاطع الأزمنة والأمكنة والتوجهات، ومصرا على انتظام التفصيل قبل الإجمال. حتى اسمه. هو "رفعة"، وليس "رفعت". كان قوله: لفظها كما العادة مع إظهار التاء، ولكن كتابتها بالعربية، لا التركية!
عام 2004، يوم أريد للعراق علم جديد لإخراجه من سلالة الإعلام البعثية، والتي أقحم فيها طاغية الأمس عبارة دينية، بلغته الدعوة باقتراح تصميم. علم رفعة الجادرجي كان خروجا كاملا عن المألوف، باختيار الألوان والرموز، وتجاوزا للقواعد المتبعة في صياغة الأعلام. زال توالي الأبيض والأسود والأحمر والأخضر، والذي اشترطته التوجهات القومية العربية بأمسها، وزال التوازن في توزيع الشرائط، كما هو حال معظم أعلام العالم، لتحل محلها رواية بالرموز لوطن وحضارة وموقع في العالم وفي التاريخ.
البعض، لهوسه بإسرائيل، ضاع في أوهامه حول مؤامرة جديدة يسعى إليها الرجل على ما يبدو، وأضاع قراءة ما كتبه الرجل في اعتباره للتراث الثري لوطنه.
علم العراق اليوم هو علم البعث، وإن شُتتت النجوم. بل هو علم صدام، فما خطته يده بعد أم معاركه ما زال في صدر العلم. العزاء، على ما يبدو، هو أن المؤامرة قد فشلت.
لا بأس. حياة رفعة الجادرجي، وإنجازه، وفكره، ومواقفه، هي الدليل على أن الحضارة مستمرة. طابت ذكراك، أستاذ رفعة.