A man walks wearing a face mask in Tegucigalpa on April 12, 2020 during the curfew ordered by the Honduran government to help…
رجل يرتدي قناعا في هندوراس

الجائحة في اللغة هي الشدة والنازلة العظيمة، والفعل منها اجتياح يفيد معنى الإهلاك الكامل، ويقولون اجتاح العدو مال فلان إذا أَتى عليه. فهي إذن تنبئ بحد فاصل بين وضع سابق وآخر لاحق، وأن الحال بعدها لن يكون كما كان قبلها.

وإذ تُلقي جائحة كورونا المستجدة "كوفيد-19" بظلالها على ملايين البشر وعشرات الدول، فإن أثرها لن يقتصر على تهديد حياة الناس بالفناء أو التأثير السلبي على اقتصاد الدول بل أنه قد يمتد لتغيير موازين القوة وتشكيل العلاقات والروابط السياسية والاقتصادية عبر ظهور نظام عالمي يختلف عن الحالي الذي تقف على رأسه الولايات المتحدة الأميركية.

انحصرت العوامل الأساسية التي ظلت تتحكم في طريقة تشكيل الأنظمة المسيطرة على العالم منذ صلح ويستفاليا في التعاون أو التنافس والحروب بين الدول وما يتولد عنها من نظم تعكس موازين القوة، فضلا عن وجود عوامل أخرى تساعد في الإسراع بوتيرة التغيير.

النظام العالمي قبل الجائحة لن يستمر كما كان قبلها طويلا

لا شك أن المتأمل في المشهد الدولي الراهن يلاحظ أن الجائحة العظيمة ستشكل عاملا مساعدا مهما في التغيير القادم للنظام الدولي، وهو الأمر الذي تبدى في العديد من المواقف التي اتخذتها الدول المتنافسة في الساحة الدولية في إطار مكافحة الفيروس القاتل بالإضافة لنقاط الضعف الخطيرة التي كشفها الأخير في بنية النظام الحالي.

كشف الفيروس القاتل أن النظم الرأسمالية الكبرى تعاني من خلل كبير في نظرتها لماهية الأمن القومي، حيث قامت بالتركيز على الجوانب العسكرية والأمنية وصرفت مبالغ مالية طائلة في صنع وتكديس الأسلحة بكافة أنواعها بينما تم تجاهل الأبعاد الإنسانية والغذائية والصحية والاجتماعية كمرتكزات أساسية للأمن القومي.

يتبدى هذا الأمر في التصريح الذي أدلى به المدير السابق للمخزون الأميركي الفيدرالي من الكمامات، غريغ بوريل، الذي أكد ضعف استعدادات الولايات للأوبئة وقال إن "الصحة العامة ليست ممولة بشكل جيد على مستوى الولاية أو المستوى المحلي أو على المستوى الفيدرالي في الولايات المتحدة، إنها مشكلة مزمنة".

قد كان من المذهل رؤية دول كبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا وبريطانيا تعاني من نقص حاد في أجهزة التنفس الاصطناعي والمشافي والكمامات، فضلا عن غياب الخطط الواضحة في التعامل مع الفيروس القاتل بينما نجحت الصين "دولة سلطوية" في مواجهته من خلال تبني استراتيجية ناجعة اتسمت بالشمول والفعالية.

ظهر جليا أن الرأسمالية المتوحشة التي وسمت سياسات الدول الليبرالية وشركاتها العابرة للحدود تعاني من مأزق كبير، ففضلا عن أزمتها العميقة التي تجلت في خلق التفاوت الهائل في الدخول بين الأفراد والطبقات الاجتماعية والدول، فقد عجزت عن المساهمة في مواجهة الخطر العالمي الذي فرضته الجائحة عبر التعاون والمساعدة المشتركة.

كشف الفيروس القاتل أن النظم الرأسمالية الكبرى تعاني من خلل كبير في نظرتها لماهية الأمن القومي

كانت المفارقة أن الصين وروسيا أظهرتا قدرا أكبر من التعاون مع دول الغرب في التعامل مع الجائحة، وقدمتا مساعدات طبية وإنسانية لأميركا وإيطاليا في الوقت الذي اشتكت فيه الأخيرة من عدم تعاون الدول الأوروبية وأبدت امتعاضا واضحا على لسان رئيس وزرائها، جوزيبي كونتي، الذي صرح بأن "الاتحاد الأوروبي مهدد بالانهيار كمشروع ما لم يقم بمساعدة الدول الأكثر تضررا من الجائحة داخله"، وطالب الاتحاد بالارتقاء لمستوى التحدي الذي قال إنه يعتبر "أكبر اختبار تواجهه أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية".

من ناحية أخرى، فإن الولايات المتحدة الأميركية استمرت في تبني شعار "أميركا أولا" التي اتخذ منه الرئيس دونالد ترامب موجها رئيسيا لسياسته الخارجية، حيث اكتفت بالانكفاء على نفسها في محاولة مكافحة الجائحة، حتى أن بعض صحفها اعتبرت محاولة الصين وروسيا مد يد العون للآخرين بما فيهم أميركا مجرد سلوك انتهازي.

An Iraqi health worker sprays disinfecting liquid in the streets of the centre of the southern city of Basra on March 25, 2020,…
عن كورونا والصين والإعجاب العربي بها
إذا كانت تجربة فيروس كورونا مثالا صينيا على نوعية الخسارات الكبرى التي يتكبدها المجتمع والعالم عند غياب استقلال المؤسسات وشفافية صناعة القرار، فإن قبول العراق الدخول في صفقة كبرى مع الصين بذات الغياب في الاستقلال والشفافية، يعني أن الانقياد السهل وراء الإغراء الخادع الذي يمثله النموذج الصيني

موقف واشنطن أثار كثيرا من التساؤلات حول مستقبل النظام العالمي الذي تتزعمه أميركا، وهو الأمر الذي علق عليه، دانيال فينكلشتاين، مستشار رئيس الوزراء البريطاني السابق جون ميجور، في مقال بعنوان "هل نشهد نهاية الحقبة الأميركية؟"  بالقول إن الفيروس شكل اختبارا للنظام العالمي القائم "فالأمر المميز في هذه الأزمة هو امتحانها لرد كل دولة بصورة منفردة على الوضع القائم لديها ولكن أين القيادة الدولية لمواجهة ذلك، وأين الريادة الأميركية المفترضة للرد على هذا الفيروس؟".

ومضى فينكلشتاين ليقول "هذا اختبار قاس لزعيم العالم الحر، ولكن الآن لا يوجد زعيم لهذا العالم، لأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب غير قادر في الأصل على قيادة رد الفعل الأميركية تجاه الأزمة، ناهيك عن توجيه أو إلهام المؤسسات الدولية، في كل الأحوال فإنه ليس مهتما بفعل ذلك، وإذا كان لديه هذا الاهتمام فمن ذا الذي سيقوم باتباعه وهو يترنح، ويطلق عباراته الغاضبة خلال مؤتمراته الصحافية المشتتة".

التداعيات السياسية والاقتصادية للانتشار الكبير للفيروس القاتل على مستوى العالم ربما تمثل بداية لتشكل نظام جديد

على الجانب الآخر، بدت الصين أكثر ثقة بنفسها في الملعب الدولي حيث نجحت في مواجهة الجائحة العظيمة باستراتيجية واضحة سخرت لها إمكانيات مادية وبشرية هائلة كما أظهرت انفتاحا على بقية العالم عن طريق مد يد العون للدول الغربية وغيرها من الدول.

لا شك أن النفوذ الصيني العالمي كان قد بدأ في التنامي منذ ما قبل ظهور الفيروس، حيث أظهرت بكين تمددا كبيرا في مناطق النفوذ الأميركي التقليدية في جنوب شرق آسيا وأوروبا، وذلك عبر تبني سياسات ومبادرات اقتصادية متعددة ليس أقلها مشروع "الحزام والطريق"، وهو أكبر مشروع بنية تحتية في العالم يهدف لتحسين الروابط التجارية العابرة للقارات عبر بناء مرافئ وطرق وسكك حديدية ومناطق صناعية.

إمعان النظر في هذه المؤشرات يقود إلى نتيجة مفادها أن النظام العالمي قبل الجائحة لن يستمر كما كان قبلها طويلا، وأن التداعيات السياسية والاقتصادية للانتشار الكبير للفيروس القاتل على مستوى العالم ربما تمثل بداية لتشكل نظام جديد قد يضمُر فيه نفوذ الولايات المتحدة الأميركية ويتنامى الوجود الصيني بشكل كبير بينما تتراجع الأنظمة الليبرالية لصالح تمدد الدولة السلطوية.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.