يَستهلك الخطابُ السياسي العراقي كثيرا من المفاهيم، وغالبا ما يتم إخراجها من سياقها التطبيقي والنظري، ويتم تهجينها في البيئة السياسية العراقية. فمثلا جرى تحويل الديمقراطية التوافقية إلى محاصصة، وحين استهُجنَت، استبدلت بالشراكة الوطنية. وفي مواسم الانتخابات تتصدر الشعارات مفردات مثل "كتلة وطنية عابرة للطوائف"، و"الأغلبية السياسية"، وكلها تسوَّق بعناوين وطنية رنّانة. وآخر صيحات المفاهيم التي جرى تداولها هذه الأيام مفهوم "الإجماع السياسي".
إذا كان الإجماع السياسي، كما يُعرف في العلوم السياسية، يعني الاتفاق على منظومة القيم التي تحدد المصلحة العامة في العلاقة بين المجتمع والدولة، ومِن ثمَّ تعطي مشروعية لعمل النظام السياسي، فإن مفهومه بالخطاب السياسي العراقي يختلف، إذ لا مكان للمجتمع، ولا للمصلحة العامة عندما يجري الحديث عن الإجماع السياسي أو الوطني.
فهو ليس كذلك في إدراك الطبقة السياسية في العراق، فالمقصود هو إجماع الفرقاء السياسيين حين ينتقلون من مرحلة المهاترات الخطابية والخطوط الحمراء التي يضعونها بين بعضهم الآخر، إلى الاتفاق على تقاسم السلطة فيما بينهم.
العراق ما بعد تظاهرات أكتوبر لن يعود إلى ما قبل هذا التاريخ
ومن مفارقات هذا "الإجماع السياسي" عدم ارتباطه بأي علاقة مع منظومة القيم المتفق عليها بين المجتمع والدولة، والتي تقف على رأسها قضية الشرعية السياسية. فمن يتفق ومن يتحاور هم زعماء الأحزاب. وعندما نتساءل عن شرعيتهم، نجد مصدرها في ثالوث هجين يجمع بين الأنماط الثلاث التي حددها ماكس فيبر: العناوين والرمزيات التقليدية، والكاريزما التي صنعها المنصب السياسي، والقانونية التي يفترض أنها مستمدة من الانتخابات.
المفارقة أن هذا الإجماع قد جرى بعيدا عن اعتبارات قبول ورضا الجمهور، فبعض الزعماء لا يستمدّون شرعية عملهم السياسي من خلال أصوات الناخبين؛ لأنَّهم يعتقدون بأن عناوينهم الرمزية أعلى منزلة وأكبر من الجمهور! ومن ثم، ما يتم وصفه بالإجماع السياسي هو الوجه الحقيقي لمن يحكم ويتحكم بـ"الدولة" العراقية. وهنا نتحدث عن شرعية الأمر الواقع لحكم الأوليغارشيات السياسية، يقابلها هشاشة شرعية البنى السياسية الراهنة، كيانات وأنظمة ومؤسسات.
وهنا لا يُعد الإجماع بين الفرقاء السياسيين مؤشرا إيجابيا؛ لأنه تعبير عن نظام سياسي محكوم بمزاجيات ومصالح زعماء الأحزاب، وما يتم تسويقه على إنه "إجماع سياسي" ما هو إلا شيطنه سياسية غايتها التسويف وهدفها التغالب بين القوى السياسية على إرادة الشعب. كما إنه لم يتم إلا بعد تدخل خارجي أثبت نجاحه في مهتمه الأولى بالتحشيد لهذا الإجماع، ولم يغادر عَـرّابه أرض العراق إلا بعد أن حسم الموضوع مع القوى السياسية السنية والكردية. وبالتالي "لا أبطال في طروادة"، كما يقول الروائي العراقي إبراهيم البهرزي.
ما حدث في تكليف السيد مصطفى الكاظمي لرئاسةِ حكومة جديدة تخلف حكومة عبد المهدي المستقيلة، يجب قراءته من منظور تكريس الانقسام بين السلطة والمجتمع، وليس باعتباره إجماعا سياسيا.
هذا الإجماع قد جرى بعيدا عن اعتبارات قبول ورضا الجمهور
فالقدرة على التأثير في الأحداث السياسية مقسمة بين الزعامات السياسية، وقرار الحسم يخضع لتوازنات المصالح. وفشل تمرير حكومة المكلفَين السابقَين علاوي والزرفي، كان بسبب طريقة ترشيحهم الذي عد تعبيرا عن كسرٍ لقرار الرفض من بعض القيادات، ولو تم تمرير حكومتهما داخل مجلس النواب لكان بداية النهاية للتوافقات بين الزعماء واحتكارها لِلقرار السياسي.
فالزعامات استشعرت الخطر عندما تم تكليف السيد عدنان الزرفي بتشكيل حكومة جديدة من دون الاتفاق عليه بين زعامات القوى السياسية الشيعية. ولذلك جاء الاعتراض بعناوين مختلفة، مرة بالتجاوز الدستوري من قبل رئيس الجمهورية، وأخرى بالخوف مِن تشكيل سابقة خطيرة يتم التجاوز فيها على حق "المكوّن الشيعي" بالترشيح لمنصب رئيس الوزراء.
بيد أن في واقع الحال، التخوف الحقيقي كان من انفراط عِقد الكتل السياسية، وظهور حركة تمرد على انفراد الزعامات السياسية بقرار الكتل، وكان هذا سيتحقق فعلا لو تم عقد جلسة مجلس النواب للتصويت على كابينة حكومة السيد الزرفي.
إذن، لا يمكن السير في جوق المطبلين والمستبشرين بالإجماع السياسي على ترشيح السيد مصطفى الكاظمي، لأنَّ إعادة هذا الموضوع في شريط أحداث الذاكرة السياسية، لا تزال مرتبطة بترشيح الجعفري، والمالكي، والعبادي، وعادل عبد المهدي. ولعلَّ الأخير لم يحظَ غيره بإجماع الفرقاء السياسيين. وكانت النتيجة التمسك بهذا الإجماع رغم دماء الشباب التي سالت في ساحات التظاهر!
المهمة شاقة وعسيرة أمام الصحفي سابقا، ورئيس جهاز المخابرات بالأمس القريب، والمكلَّف برئاسة مجلس الوزراء، فالعمل هذه المرة لا يشابه تحديات مهنة المتاعب، ولا العمل في الظل، وإنما العمل السياسي الذي يتطلب بالدرجة الأولى إيقاف التدهور بعد التركة الثقيلة التي خلفها الفشل والفساد وسوء الإدارة للحكومات السابقة. وصعوبة تحقيق التوازن بين جمهور مِن المتظاهرين يترقب انتهاء جائحة كورونا حتى يعود لساحات التظاهر مرة أخرى، وبين مطالب الزعامات السياسية التي مواقفها بالعلن تختلف عن اشتراطاتها عند الجلوس في مفاوضات تشكيل الحكومة.
ما حدث في تكليف السيد مصطفى الكاظمي يجب قراءته من منظور تكريس الانقسام بين السلطة والمجتمع، وليس باعتباره إجماعا سياسيا
لا رهان على "الإجماع السياسي" الذي أوصل السيد الكاظمي إلى التكليف بإحداث معجزة سياسية واقتصادية وأمنية بالعراق، فمَن أتى به للمنصب يريده أن يكون واجهة لتحقيق حلم الوصول إلى منصب رئيس الوزراء. ومَن وافق على ذلك، كان بدافع الخصومة للمرشحَين السابقَين أو للحفاظ على مصالحه.
لكن يبقى هناك رغبة مشفوعة بالأمل بأن يكون السيد الكاظمي قادرا على التقليل من مؤشرات التدهور الخطيرة التي تعصف بالبلاد والعباد، وأن يعيد نوعا ما لاعتبارات المنصب التنفيذي الأعلى هيبته في اتخاذ القرار السياسي، بعد أن تحول إلى واجه للثرثرة السياسية في زمن عادل عبد المهدي.
على الرغم من ذلك، لم أصب يوما باليأس من حيوية الجيل الشبابي حتى في أحلك الظروف السياسية التي يخرج بها زعماء الطوائف السياسية منتصرين ببقائهم على كراسيهم، من دون إحداث أي تغيير في التوافقات والصفقات التي تمد سلطتهم ونفوذهم بمقومات البقاء.
ولعل الإبقاء على هذا النظام ظلَّ جامدا عند توافقات زعماء الطوائف السياسية بشرعيتهم الهجينة، وفي مقابله حراك جماهيري يتجدد بين فترة وأخرى. هو الذي يبقي مساحة للأمل بأن التاريخ لن يسمح بكسر إرادة الجماهير مهما تآمر السياسيون وكسبوا الجولات من المعركة، فالعراق ما بعد تظاهرات أكتوبر لن يعود إلى ما قبل هذا التاريخ.