A man walks past a stack of newspapers near Bixton Station, as the spread of the coronavirus disease (COVID-19) continues,…
لا أتمنى أن تنتهي الصحافة الورقية، وآمل أن تنجح محاولات إنقاذها من الموت

منذ أن بدأ حظر التجول في الأردن، قبل ما يُقارب الشهر، وحياتي مختلفة، وصباحاتي لم تعد كالمعتاد.

قد يظن البعض أن حالة الحصار خلف جدران البيوت هي السبب، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن غياب الصحف الورقية التي أدمنت على مُطالعتها منذ عقود، أشعرني بفقدان شيء من حياتي، وأصابني بالإحباط.

أنا من جيل "الحبر والورق"، الجريدة بالنسبة لي كالقهوة، إنها الكافيين الذي أحتاجه يوميا، ورغم كل محاولات ترويضي لأصبح كائنا إلكترونيا، إلا أنها فشلت، وبقيت وفيا للورق.

الأردن مثل كثير من دول العالم، ومنذ انتشار جائحة كورونا اتخذ قرارا بإيقاف طباعة الصحف، والمجلات الورقية، وربما يكون هذا القرار منسجما مع توجهات منظمة الصحة العالمية؛ للحد من احتمالات انتشار فيروس كورونا من خلال طباعة وتوزيع الصحف، وتداولها بين الناس.

لم تكن الصحافة الورقية تحتاج إلى أزمة فيروس كورونا حتى تُعاني وتحتضر، فهي منذ سنوات طويلة تواجه حصارا، وموتا بطيئا بعد رحيل قطاع كبير من جمهورها نحو الصحف الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وجاء قرار وقف الطباعة الأخير بسبب فيروس كورونا ليُمثل رصاصة الرحمة التي أطلقت على العديد من الصحف حول العالم.

ربما لن تندثر الصحافة الورقية كلها بانتهاء أزمة كورونا، غير أن المؤكد أنها تحتضر، والصحيفة التي ستصمد، وتكون قادرة على الحياة ستخلق "نموذجا" مُغايرا، ومحتوى نادرا يفرض وجوده، والحاجة إليه.

معظم صحافتنا الورقية تابعة للسلطة السياسية وفقدت إلى حد كبير صدقيتها عند الجمهور

لم يبدأ النقاش عن مآلات الصحافة الورقية مع أزمة كورونا، فهو جدل قائم منذ صعود الصحافة الإلكترونية، وإغلاق العديد من كُبريات الصحف بعد عجزها، وإفلاس بعضها، ورغم ذلك فإن باحثين ما زالوا يُبشرون بوجود فرص لاستمرار نماذج في الصحافة الورقية، وذهبت دراسة نشرتها شبكة الجزيرة تحت عنوان "الصحافة الورقية وصراع البقاء ورهانات الرقمنة"، إلى القول "من الضروري فهم العلاقة بين الصحافة الورقية والرقمنة باعتبارهما خليتين لا يمكن لإحداها أن تعيش دون الأخرى".

قد يبدو هذا الكلام مُغريا ومُشجعا لمن تعلّق قلبه بالصحف الورقية، والأجدى اختبار هذه الفرضية على أرض الواقع، ومدى قدرتها على النجاح والصمود.

بعد أن أطلقت صافرات الإنذار في عمّان؛ لتعلن أن الصحف اليومية عاجزة عن تأمين رواتب موظفيها لشهر أبريل الجاري، علّق رئيس تحرير جريدة الغد المُستقلة مكرم الطراونة في مقال له "لا يجوز النظر للصحف على أنها حبر وورق، ولا بد من النظر إلى دورها في خدمة المجتمع، والمصلحة العامة، وإيصال المعلومات بدقة وموضوعية".

وتوقع الكاتب ماهر أبو طير أن الصحف اليومية ستبقى لو أديرت باعتبارها صناعة، وليست عملا سياسيا وحزبيا، وابتكرت أنماطا، وأشكالا جديدة من العمل.

نقابة الصحفيين الأردنيين دخلت على خط الأزمة، مُطالبة الحكومة بتعويض الصحف التي توقفت عن الطباعة عن الأضرار التي لحقت بها.

أزمة الصحافة الورقية في العالم العربي ليست بمعزل عن أزمة الصحف في العالم، وهي حتما لم تبدأ بكارثة كورونا؛ لكن يُضاف لكل الأزمات التي تعيشها صحف العالم، أن صحافتنا في معظمها ليست مُستقلة، وتابعة للسلطة السياسية، وفقدت إلى حد كبير صدقيتها عند الجمهور، وتستخدمها أنظمة الحكم للترويج لسياساتها، واستبدادها.

قناعتي أن كل وسيلة إعلام تُغلق، يعني أن دربا للمعرفة، والحقيقة قد أغلق بوجه الناس

لم تُفكر، ولم تبنِ معظم الصحافة الورقية العربية في العقدين الماضيين نماذج إعلامية قابلة للحياة، واعتمدت في مورادها ـ مع تراجع إيرادات التوزيع والإعلان ـ على الدعم المالي المشروط سياسيا من الدولة.

ظلت الصحف تُقدم نفسها بذات القالب والثوب، وكأن العالم لم يتغير منذ السبعينيات، والثمانينيات، وحتى التسعينيات، ولم ترَ كل هذه التحولات من حولها، وبقيت مُعتقدة أنها تستطيع المنافسة على الخبر، والسبق الصحفي، وتُعيد رواية الأحداث التي سبقتها إليها الفضائيات صوتا وصورة، وبالتأكيد تقدم عليها الإعلام الإلكتروني أيضا.

هجر كثير من الناس الصحف الورقية التي ظلت تراوح مكانها، واتجهوا إلى الوسائط الإعلامية المُتعددة، وانضم الجمهور في غالبه لدولة "فيسبوك" التي تُتيح له أن يرى العالم، ويراه الملايين دون رقابة ووصاية، وصار معلوما أن وسيلة الإعلام التي لا تجد لها موطئ قدم في السوشيل ميديا لن يراها الناس، وأصبحت خارج ميدان المنافسة، وبحكم المجهول.

لولا الإعلانات الحكومية في الأردن؛ لأغلقت الصحف اليومية فورا، فالإعلان التجاري تراجع بشكل ملحوظ، وإيراداتها لا تكفي لديمومة الصحف، والتوزيع والاشتراكات السنوية شحيحة العائد، وشراء الصحف بشكل مباشر لم يعد يتجاوز آلاف محدودة لا تكفي لسداد ثمن الورق والطباعة؛ فكيف سيُغطي الرواتب، والكُلف الأخرى للمؤسسات الإعلامية؟

وسائل الإعلام جزء من منظومة الحقوق المجتمعية ولابد من دعمها مثل التعليم والصحة

يستحوذ الإعلان على منصات التواصل الاجتماعي على حصة متزايدة، وتأخذ إعلانات الطرق، والجدران (Out Door)  حصة أخرى مهمة، ولم يعد يتبقى إلا القليل الذي لا يكفي لتنهض الصحافة، وتعيش بكرامة واكتفاء.

أزمة الصحافة الورقية عابرة للحدود، ولهذا فإن الاتحاد الأوروبي يعكف منذ أكثر من عام على دراسة آليات دعم الإعلام المستقل، وكلّف الاتحاد الدولي للصحفيين بتقديم تصور لهذه الغاية.

حتى الآن تُقدم عواصم أوروبية دعما ماليا مباشرا لوسائل الإعلام، فالنقاش الدائر الآن في العالم أن وسائل الإعلام جزء لا يتجزأ من منظومة الحقوق المجتمعية، ومثلما تدعم الدول التعليم، والصحة؛ فعليها أن تدعم وسائل الإعلام لأنها تضمن حق المعرفة، ووصول المعلومات للجمهور، وتضمن تنوعا، وتعددا في المنصات الإعلامية.

أكثر من ذلك، فإن مؤسسات إعلامية، وحكومات تطالب محركات البحث "غوغل"، ومنصات التواصل الاجتماعي، بدفع قيمة استخدامها للمحتوى بشكل مجاني، والاستفادة منه لغايات تجارية، وتذهب حكومات إلى مُطالبة هذه المحركات، والمنصات الإلكترونية بدفع الضريبة المُستحقة على الإعلانات التي أخذتها من أسواقها، ويُفكر بعضها في تخصيص جزء من هذه العائدات إن تحققت لدعم الصحافة، وتطوير المحتوى الإعلامي.

لا أتمنى أن تنتهي الصحافة الورقية، وآمل أن تنجح محاولات إنقاذها من الموت، فقناعتي أن كل وسيلة إعلام تُغلق، يعني أن دربا للمعرفة، والحقيقة قد أغلق بوجه الناس.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.