A woman wearing gloves poses below the Hollywood Sign in Hollywood on March 22, 2020, during the coronavirus (COVID-19)…

شأنها شأن العديد من الصناعات الكبرى التي ترفد الاقتصاد، منيت صناعة السينما في العالم بخسائر كارثية مع تغول جائحة كوفيد19 منذ بداية العام، وتوقف الإنتاج وأجلت العروض المدرجة في الصالات، وهي مرحلة مبهمة حتى اللحظة، قد تكون مؤقتة، أو تطول مع استمرار الغموض أو عدم اليقين، الذي يحيط بتقلبات ودهاء وتداعيات هذا الوباء، والتوقعات المتلاحقة بتغيير نمط الحياة، وأقساها استمرار التباعد الاجتماعي لأشهر أو ربما سنوات مقبلة.

في مواجهة هذه الخسائر البشرية العامة، برز الوجه الإنساني المشرق لدور الفن والسينما وصنّاعها بترجمات سلوكية مختلفة، تتقدمهم المبادرة الملفتة التي ساهمت فيها كل من بلدية مدينة كان الفرنسية وإدارة مهرجانها السينمائي الدولي، الذي تم تأجيله عن موعده السنوي في مايو المقبل، وذلك بمنح الجناح المخصص للمهرجان، الذي كان يستقبل المؤتمرات والفعاليات الفنية وكبار النجوم ومشاهير العالم، إلى ملجأ لاستيعاب المشردين، الفئة الأكثر ضعفا في المجتمع، وتوفير كافة الخدمات والوجبات لهم كرمز للتضامن.

لم يتردد بعض كبار النجوم في بوليوود في تبرعات ملفتة، كذلك بعض نجوم مصر الذين أطلقوا وسم "تحدي الخير"

في هوليوود، لم يتأخر بعض كبار نجوم الفن والسينما، من أمثال أنجيلينا جولي وليوناردو دي كابريو وأوبرا وينفري، في المساهمة والتبرع من ثرواتهم الشخصية، أو عبر اللجوء إلى رصيدهم الشعبي لخدمة جمع التبرعات المالية أو العينية التي تذهب لصالح الفئات الأكثر ضعفا في المجتمعات، وهم نجوم ذائعو الصيت، عرفوا بسخائهم وحساسيتهم الإنسانية المفرطة في أوقات محن إنسانية قاسية سابقة، وقبل انتشار جائحة كورونا.

بدورهم، لم يتردد بعض كبار النجوم في بوليوود في تبرعات ملفتة، كذلك بعض نجوم مصر الذين أطلقوا وسم "تحدي الخير" الذي يتكفل بموجبه الفنان أو الفنانة إعانة عدد من العائلات المحتاجة، تعتبر بمجموعها مساهمات بارزة ومساندة، جرب البعض التقليل من شأنها واعتبارها شكلا من أشكال البروباغندا واستغلال الأزمة لحصد المزيد من المعجبين، لكن المدقق في الأسماء، سيكتشف أن العدد الأكبر من أصحابها، نجوم أصيلون، لا يفتقرون إلى روح المبادرة، أو تنقصهم شهرة مضاعفة، باختصار، هو موقف إيجابي ملح ّومطلوب، واختبار إنساني وأخلاقي ثمين، يؤدونه طواعية ويتماهى مع عمق وظيفة الفن العظيم.

وماذا عن مصير السينما بحد ذاتها ومآلاتها المستقبلية؟

تحول الجناح المخصص لمهرجان كان السينمائي إلى ملجأ مخصص لاستيعاب المشردين

راكمت السينما العالمية، في تاريخها الممتد إلى ما يقارب قرن من الزمان، عددا كبيرا من الأفلام الدرامية أو الوثائقية التي حاكت تجارب البشرية مع أوبئة فتاكة سابقة مثل الطاعون أو الكوليرا أو إيبولا، ضمن قصص عامة أو متصلة بالحروب أو أحداث جانبية أخرى. 

وشهدت السينما الأميركية إلى وقت قريب، إنتاجات عدة صبت في معظمها في خانة المتخيّل، وإن كانت تستند إلى ركائز معلوماتية معروفة، حول أوبئة تصيب العالم، والكوارث الناجمة عنها والتباعد الاجتماعي وغيرها من التداعيات التي تفرضها مخاطر الأوبئة، وهي أفلام أشار بعضها إلى منظمات يقودها أفراد، أصحاب فكر ظلامي، معادون للبشرية ولديها نزعات للسيطرة عليها.

نُبشت معظم هذه الأفلام مع جائحة كورونا، وشهدت انتشارا ملفتا، من مثل أفلام Pandemic-Contagion-Crazies، إضافة إلى المسلسل الكوري الجنوبي My Secret Terrius. وتم استرجاع مشاركة النجم توم هانكس في سلسلة سمبسون Marge in Chains وفي أحد سلسلة أفلام دان براون، فيلم Angels and Demons، اللذين يتحدثان عن أوبئة أو ما يشبهها ويتسببان بدمار العالم، وتصادفت إصابة النجم هانكس هو وزوجته بفيروس كورونا ثم تعافيهما منه، لتصب كل هذه الاسترجاعات في محاولة تأكيد فرضيات المؤامرة حول الحرب البيولوجية التي يقف خلفها شرير أو كوكبة أشرار إرهابيون مارقون.

يتوقع أن السينما القادمة، لن تخرج عن هذا الإطار كثيرا، وسيتم البحث عن شرير جديد بمواصفات مستحدثة، وستنهال أفلام تتحدث عن الحجر المنزلي وتداعياته النفسية والاقتصادية، إما بالإضاءة على قصص حب مؤثرة فرقها الفيروس بقسوة، أو قصص حب ترسخت بسببه خارج أو ضمن إطار العائلة وقدسيتها وتضامنها، أو قصص عائلية شهدت عنفا منزليا، ستصاغ بمجموعها، كقصص مستقلة بمواضيعها، أو يتم إدماجها بخطوط درامية رئيسة ذات منحى تشويقي ومثير.

تحول الجناح المخصص لمهرجان كان السينمائي، إلى ملجأ لاستيعاب المشردين، الفئة الأكثر ضعفا في المجتمع

هذه القصص هي حقيقة ما نعيشه اليوم من تفاصيل غزيرة، وما يتم تناقله عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، يرتهن نجاحها بمدى دقة فرزها للأحداث وموضوعيتها ومصداقية معالجتها. لكن أقسى ما سيواجهه كتّاب السيناريو، هو حقيقة فرض التباعد الاجتماعي الذي وجدوا أنفسهم فيه مثل باقي البشر، والمرعب كفكرة وجودية يتم طرحها على أنها ستطول. 

إذ أن أسس وعمق الإبداع بأشكاله، هو مخالطة الناس والانخراط بينهم، ومراقبة حيواتهم الجميلة والمختلِفة، وتذوق أطعمتهم، وسماع أصواتهم في الشارع وحافلات النقل والمقاهي، ومراقبة سلوكياتهم ونشاطاتهم وأمزجتهم وصخبهم وحماقاتهم وفضائلهم، قبل الخروج بشخصيات (كاركترات) مرسومة دراميا بدقة حرفية وصالحة لتحويلها إلى إنتاج مرئي أو مكتوب.

قد لا تعوز بعض الكتّاب المهرة المخيلة الخصبة لتصنيع ورسم هذه الشخصيات، لكنها ستكون كتابة نيئة نسبيا، إذ أنهم سيفتقدون، وسيحزنون أيضا، بشكل شخصي ومباشر، لتوقف أو ندرة متعة الاحتكاك بالناس وأنفاسهم، والإنصات إلى همساتهم عن قرب، هذا الاحتكاك الحيوي البشري الاجتماعي، الأساس والملهم الفضيل الذي يصنع الدراما الأكثر تأثيرا وديمومة.

في الحديث عن المخيلة، يحلو لي أن أتخيل بدوري التطور الدرامي الذي قد يطرأ على شخصية الرجل الوطواط Batman  وسلسلة أفلامه، وهو فاعل الخير الذي يحارب الجريمة وصنع لنفسه بذلة مستوحاة من هيئة الخفافيش التي كانت من أكبر مخاوفه في صغره، ما هو هذا التطور الدرامي في ظل اعتبار الخفاش هو الشرير الأكبر اليوم؟ يبقى الجواب لعنصر التشويق السينمائي القادم الذي ننتظر عودة العافية إليه وإلى عشاقه.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.