شأنها شأن العديد من الصناعات الكبرى التي ترفد الاقتصاد، منيت صناعة السينما في العالم بخسائر كارثية مع تغول جائحة كوفيد19 منذ بداية العام، وتوقف الإنتاج وأجلت العروض المدرجة في الصالات، وهي مرحلة مبهمة حتى اللحظة، قد تكون مؤقتة، أو تطول مع استمرار الغموض أو عدم اليقين، الذي يحيط بتقلبات ودهاء وتداعيات هذا الوباء، والتوقعات المتلاحقة بتغيير نمط الحياة، وأقساها استمرار التباعد الاجتماعي لأشهر أو ربما سنوات مقبلة.
في مواجهة هذه الخسائر البشرية العامة، برز الوجه الإنساني المشرق لدور الفن والسينما وصنّاعها بترجمات سلوكية مختلفة، تتقدمهم المبادرة الملفتة التي ساهمت فيها كل من بلدية مدينة كان الفرنسية وإدارة مهرجانها السينمائي الدولي، الذي تم تأجيله عن موعده السنوي في مايو المقبل، وذلك بمنح الجناح المخصص للمهرجان، الذي كان يستقبل المؤتمرات والفعاليات الفنية وكبار النجوم ومشاهير العالم، إلى ملجأ لاستيعاب المشردين، الفئة الأكثر ضعفا في المجتمع، وتوفير كافة الخدمات والوجبات لهم كرمز للتضامن.
لم يتردد بعض كبار النجوم في بوليوود في تبرعات ملفتة، كذلك بعض نجوم مصر الذين أطلقوا وسم "تحدي الخير"
في هوليوود، لم يتأخر بعض كبار نجوم الفن والسينما، من أمثال أنجيلينا جولي وليوناردو دي كابريو وأوبرا وينفري، في المساهمة والتبرع من ثرواتهم الشخصية، أو عبر اللجوء إلى رصيدهم الشعبي لخدمة جمع التبرعات المالية أو العينية التي تذهب لصالح الفئات الأكثر ضعفا في المجتمعات، وهم نجوم ذائعو الصيت، عرفوا بسخائهم وحساسيتهم الإنسانية المفرطة في أوقات محن إنسانية قاسية سابقة، وقبل انتشار جائحة كورونا.
بدورهم، لم يتردد بعض كبار النجوم في بوليوود في تبرعات ملفتة، كذلك بعض نجوم مصر الذين أطلقوا وسم "تحدي الخير" الذي يتكفل بموجبه الفنان أو الفنانة إعانة عدد من العائلات المحتاجة، تعتبر بمجموعها مساهمات بارزة ومساندة، جرب البعض التقليل من شأنها واعتبارها شكلا من أشكال البروباغندا واستغلال الأزمة لحصد المزيد من المعجبين، لكن المدقق في الأسماء، سيكتشف أن العدد الأكبر من أصحابها، نجوم أصيلون، لا يفتقرون إلى روح المبادرة، أو تنقصهم شهرة مضاعفة، باختصار، هو موقف إيجابي ملح ّومطلوب، واختبار إنساني وأخلاقي ثمين، يؤدونه طواعية ويتماهى مع عمق وظيفة الفن العظيم.
وماذا عن مصير السينما بحد ذاتها ومآلاتها المستقبلية؟
راكمت السينما العالمية، في تاريخها الممتد إلى ما يقارب قرن من الزمان، عددا كبيرا من الأفلام الدرامية أو الوثائقية التي حاكت تجارب البشرية مع أوبئة فتاكة سابقة مثل الطاعون أو الكوليرا أو إيبولا، ضمن قصص عامة أو متصلة بالحروب أو أحداث جانبية أخرى.
وشهدت السينما الأميركية إلى وقت قريب، إنتاجات عدة صبت في معظمها في خانة المتخيّل، وإن كانت تستند إلى ركائز معلوماتية معروفة، حول أوبئة تصيب العالم، والكوارث الناجمة عنها والتباعد الاجتماعي وغيرها من التداعيات التي تفرضها مخاطر الأوبئة، وهي أفلام أشار بعضها إلى منظمات يقودها أفراد، أصحاب فكر ظلامي، معادون للبشرية ولديها نزعات للسيطرة عليها.
نُبشت معظم هذه الأفلام مع جائحة كورونا، وشهدت انتشارا ملفتا، من مثل أفلام Pandemic-Contagion-Crazies، إضافة إلى المسلسل الكوري الجنوبي My Secret Terrius. وتم استرجاع مشاركة النجم توم هانكس في سلسلة سمبسون Marge in Chains وفي أحد سلسلة أفلام دان براون، فيلم Angels and Demons، اللذين يتحدثان عن أوبئة أو ما يشبهها ويتسببان بدمار العالم، وتصادفت إصابة النجم هانكس هو وزوجته بفيروس كورونا ثم تعافيهما منه، لتصب كل هذه الاسترجاعات في محاولة تأكيد فرضيات المؤامرة حول الحرب البيولوجية التي يقف خلفها شرير أو كوكبة أشرار إرهابيون مارقون.
يتوقع أن السينما القادمة، لن تخرج عن هذا الإطار كثيرا، وسيتم البحث عن شرير جديد بمواصفات مستحدثة، وستنهال أفلام تتحدث عن الحجر المنزلي وتداعياته النفسية والاقتصادية، إما بالإضاءة على قصص حب مؤثرة فرقها الفيروس بقسوة، أو قصص حب ترسخت بسببه خارج أو ضمن إطار العائلة وقدسيتها وتضامنها، أو قصص عائلية شهدت عنفا منزليا، ستصاغ بمجموعها، كقصص مستقلة بمواضيعها، أو يتم إدماجها بخطوط درامية رئيسة ذات منحى تشويقي ومثير.
تحول الجناح المخصص لمهرجان كان السينمائي، إلى ملجأ لاستيعاب المشردين، الفئة الأكثر ضعفا في المجتمع
هذه القصص هي حقيقة ما نعيشه اليوم من تفاصيل غزيرة، وما يتم تناقله عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، يرتهن نجاحها بمدى دقة فرزها للأحداث وموضوعيتها ومصداقية معالجتها. لكن أقسى ما سيواجهه كتّاب السيناريو، هو حقيقة فرض التباعد الاجتماعي الذي وجدوا أنفسهم فيه مثل باقي البشر، والمرعب كفكرة وجودية يتم طرحها على أنها ستطول.
إذ أن أسس وعمق الإبداع بأشكاله، هو مخالطة الناس والانخراط بينهم، ومراقبة حيواتهم الجميلة والمختلِفة، وتذوق أطعمتهم، وسماع أصواتهم في الشارع وحافلات النقل والمقاهي، ومراقبة سلوكياتهم ونشاطاتهم وأمزجتهم وصخبهم وحماقاتهم وفضائلهم، قبل الخروج بشخصيات (كاركترات) مرسومة دراميا بدقة حرفية وصالحة لتحويلها إلى إنتاج مرئي أو مكتوب.
قد لا تعوز بعض الكتّاب المهرة المخيلة الخصبة لتصنيع ورسم هذه الشخصيات، لكنها ستكون كتابة نيئة نسبيا، إذ أنهم سيفتقدون، وسيحزنون أيضا، بشكل شخصي ومباشر، لتوقف أو ندرة متعة الاحتكاك بالناس وأنفاسهم، والإنصات إلى همساتهم عن قرب، هذا الاحتكاك الحيوي البشري الاجتماعي، الأساس والملهم الفضيل الذي يصنع الدراما الأكثر تأثيرا وديمومة.
في الحديث عن المخيلة، يحلو لي أن أتخيل بدوري التطور الدرامي الذي قد يطرأ على شخصية الرجل الوطواط Batman وسلسلة أفلامه، وهو فاعل الخير الذي يحارب الجريمة وصنع لنفسه بذلة مستوحاة من هيئة الخفافيش التي كانت من أكبر مخاوفه في صغره، ما هو هذا التطور الدرامي في ظل اعتبار الخفاش هو الشرير الأكبر اليوم؟ يبقى الجواب لعنصر التشويق السينمائي القادم الذي ننتظر عودة العافية إليه وإلى عشاقه.