Shiite Muslims participate in a collective Koran reading session during the month of Ramadan, at the Imam Ali Ibn Abi Taleb…

في السابع من أبريل 2003 وقف أهل النجف أمام القوات الأميركية ومنعوها من الاقتراب من صور المدينة القديمة حيث مرقد الإمام علي ابن أبي طالب، وبيوت أغلب المراجع ومدارسهم الدينية، حينها أطلق الأهالي عبارتهم الشهيرة "ستي أوكي إمام علي نو" (City Okay, Imamo Ali No)؛ عبارة عفوية لكنها بقصد أو بغيره أسست للعلاقة الشائكة ما بين الوجود الأميركي في العراق والأغلبية الشيعية التي تسلمت السلطة كاملة لأول مرة منذ تأسيس العراق الحديث سنة 1921.

هي التسوية إذن، وبلغة الفرنجة الجدد "The Deal" تسوية حصد مكاسبها أهل السياسة الذين أبدوا حرصهم الشديد عليها، بعدما فتحت أمامهم باب الفرج للوصول إلى السلطة والمكاسب والثروة، خصوصا أن أغلبهم تسلل تحت جنح الظلام إلى المدينة التي عوضت في تلك اللحظة ضعف بغداد ولكنها رفضت أن تكون بديلا عنها.

وسط المدينة القديمة يوجد الصحن الحيدري بأبوابه الخمسة، ويطلق على أحد الأبواب اسم باب الفرج، وهو تسمية استعارها ابن المدينة الأديب زهير الجزائري عنوانا لروايته الأخيرة "باب الفرج"، التي روى فيها حياة المدينة بين احتلالين (عثماني وبريطاني)، ومن المستبعد أن يكون أحد سياسي الصدفة قد قرأ رواية الجزائري، فأغلب أهل السلطة لا يقرأون ولا يسمعون ولا يرون، أو إذا شاءت الصدفة أن يقرأ أحدهم لا يحصل هذا إلا متأخرا وبعد فوات الأوان، حين لم يعد لقراءتهم من معنى بعدما أغلقت المدينة بأمر من مرجعها كافة أبوابها بوجههم منعا لأي تسلل سري أو علني إلى داخلها.

دخلت النجف في الأسبوع الأخير من الشهر الرابع من سنة الهزيمة والاحتلال والحرية، عند أبواب المدينة القديمة اكتمل مشهد ذاكرتي

في زمن التحولات الكبرى والتنازلات الكبرى والخلط ما بين الانتماء والتبعية، بين القداسة والتقديس، تبقى النجف باستعصائها فقهيا وسياسيا على الداخل والخارج القريب منها والبعيد، معادلة حية لثابت غير قابل للتحول في التاريخ والجغرافيا.

أتذكر أني دخلت المدنية في الأسبوع الأخير من الشهر الرابع من سنة الهزيمة والاحتلال والحرية، عند أبواب المدينة القديمة اكتمل مشهد ذاكرتي، فالعادة أن يتحدّث الناس عن مدن أو أماكن زاروها أو عاشوا فيها، أمّا في حالتي، فقد كنت أتأكد من التطابق بين الصورة التي رسمها والدي في ذهني عن المدينة. 

على أبواب النجف تملكني الخيال لا المشهد، عدت للموروث برمته من دون تردُّد، على عجل استعدت ما تيسر مما حكاه والدي أو كتبه عنها، فدخلت المدينة كالغائب عنها فقط وبدأت البحث في تفاصيلها؛ حي السعد؛ شارع الرسول؛ مسجد السهلة؛ السوق القديمة؛ الطوسي؛ كلية الفقه؛ جامع الهندي؛ بيت السيِّد السيستاني؛ براني السيد الخوئي؛ الشيخ الخاقآني؛ حسينية آل بحر العلوم؛ بيت الجواهري.

كانت شوارع المدينة، ولم تزل، مهملة. أبنية أقل من عادية، صورة متكاملة لمشهد يختزل سنوات القمع والحرمان والحزن. ففي الأيام الأولى للسقوط أو التحرير أو الاحتلال كان الصمت والخوف واضحان ولكن الرَّجاء كان حاضرا، فهو لم يغادر لا أهل المدنية ولا زوار مقامها. إليه يأتون كل يوم، يسألونه الدعاء، المساعدة بالمغفرة يوم الدين، يتكلمون معه يجادلونه، يطلبون دون خجل، ويكررون. يعودون كل يوم يطلبون ولا يشعرون بالإهانة من الإلحاح أو كثرة الطلب، يخبرونه حوائجهم، أحزانهم وخوفهم، هو مشكى ضيمهم، معه لا يوجد ثالث يسمعهم غير الله. 

في الحديث السري داخل المقام يتجلى تراكم الخوف العراقي، والألم المسكون بأهل المدينة وبالعراقيين، فلم يكن أي داع لسؤالها إلى من تتحدث؟ أو عمَّا تتحدث؟ أو لماذا تأتي كل يوم؟ وإن لم يتغير شيء.

على أبواب النجف تملكني الخيال لا المشهد، عدت للموروث برمته من دون تردُّد، على عجل استعدت ما تيسر مما حكاه والدي أو كتبه عنها

والسؤال أمام هذا الكم من القتل والتعذيب والتشريد الذي شهده العراق إبان حكم البعث، إبان الخوف الدائم، والحذر المستمر، ما كان ليفعل الفرد العراقي، لولا وجود هذه العادات والتقاليد الدينية، التي منحته فسحة من الأمل.

في كتابه "الشيعة بين الاجتماع والدولة"، يعود هاني فحص بذاكرته إلى سيِّدة مسنة من قريتنا، قالت له ما لم تدرك حجمه ومستقبله وضرائبه "يا هاني ابن السيِّد مصطفى مكانك ليس هنا، إنه في النجف"؛ وفي نفس الكتاب يقول السيِّد هاني فحص إنه لا يستطيع أن يخفي شيعيته، فالعمامة السوداء على رأسه، منذ أكثر من أربعين عاما، أصبحت علامته؛ وهي علامتي عندما أدخل المدينة أو أكتب عنها، هي الموروث الذي لا يمكن تجاوزه رغم كل محاولاتي أو قناعاتي بضرورة الاعتراف به ولكن عدم تبنيه بالكامل.

وفي العودة على بدء، للموروث الذي يطغى ليصبح الهوية، في المشهد المتكامل معه، في النجف كانت المدينة أول الأوطان وآخر المنافي، فيها عدت لكل ما كتب وقيل عنها، من جمل والمفردات، وللكثيرين حكاياتهم عنها، ولي أن أروي بعد 17 عاما ما رأيته من حكاية عن مرقد ومدينة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.