كل يوم أتابع تعليقات كثير من الأصدقاء والزملاء على مواقع التواصل الاجتماعي وهم يحللون أرقام الإصابات والوفيات بفيروس كورونا المستجد في مصر. البعض يرى أنه لا داعي للقلق "الزائد"، فمن وجهة نظرهم، الأعداد ما زالت قليلة. حتى لحظة كتابة المقال، ما زال عدد حالات الإصابة المؤكدة أقل من 3 آلاف وعدد الوفيات 205 وفاة فقط. ولكن في ظل عدد قليل جدا من الاختبارات التي قامت بها مصر، هل تعكس هذه الأرقام حقيقة انتشار فيروس كورونا في مصر.
بداية عليّ أن أوضح أنني لا أفترض أن هناك أرقاما غير معلنة للإصابات، ولكن ما أقصده أن دولا مختلفة بنت قراراتها على أساس نسب انتشار أقل من الحقيقة بسبب محدودية الاختبارات، وعند توفر الاختبارات لأعداد أكبر بدأت النسب الحقيقية لانتشار المرض في هذه البلدان في الظهور تدريجيا.
وربما تكون الولايات المتحدة مثالا واضحا على ذلك ففي نهاية فبراير كان عدد المصابين 68 حالة إصابة فقط. ليس لأن ذلك كان انعكاسا للواقع ولكن لأن الاختبارات لم تكن متاحة ببساطة. ولكن مع الوقت ومع توفر الاختبارات اتضح أن التقديرات الأولية كانت بعيدة عن الحقيقة. فاليوم، عدد الحالات الإيجابية في أميركا تخطى 686 ألف حالة مؤكدة، أي أن عدد الحالات تضاف 100 ألف مرة، في شهر ونصف فقط!
وبحسب آخر رقم معلن فإن مصر قامت بـ 25 ألف اختبار فقط، بنسبة 244 اختبار لكل مليون شخص وهي نسبة ضعيفة جدا. حيث يتم إجراء الاختبارات في مصر فقط لمن تظهر عليهم أعراض واضحة للمرض بعد تحويل الطبيب. ومن الملفت أن هذا الرقم لم يتم تحديثه منذ أكثر من أسبوعين، ولا يوجد أي رقم رسمي معلن لآخر عدد للاختبارات التي تم القيام بها.
الوقاية ليست فقط أفضل من العلاج لكنها أوفر بكثير!
وحيث أن محدودية إتاحة الاختبارات هي واحدة من أشهر الأخطاء التي وقعت فيها دول كثيرة والتي نتج عنها انتشار واسع للمرض. وعليه فإن الرأي الذي يقول إن عدد الاختبارات القليل هو ضرورة لترشيد الموارد المالية المحدودة، يغفل أو يتغافل عن الأضرار البشرية والاقتصادية الضخمة التي من الممكن أن تحدث في حال انتشر المرض فجأة، نتيجة لعدم اكتشاف الحالات بالسرعة أو بالدرجة الكافية.
فنحن نحارب فيروس لا نراه بأعيننا، والطريقة الوحيدة التي تمكننا من معرفة مدى وسرعة وأماكن انتشاره هي الاختبارات على نطاق واسع لتشمل الذين لا يظهرون أعراض أيضا، وخصوصا بين الأطقم الطبية التي تتعامل بأي درجة مع مرضى كورونا أو بين المخالطين للمرضى سواء ظهرت عليهم الأعراض أم لا، وهو ما لا يحدث حاليا.
فالدراسات تفيد أن هناك بعضا ممن أصيبوا بالمرض قد وصلت إليهم العدوى عن طريق أشخاص لم يظهروا أية أعراض Asymptomatic. كما تكشف أيضا أن الشخص يستطيع نقل العدوى في الأيام التي تسبق ظهور الأعراض عليه Pre-symptomatic
وهذا يقودنا لاستنتاج بسيط إلا وهو أن الاكتفاء باختبار من تظهر عليهم الأعراض يخدم هدفا واحدا فقط، وهو علاج هؤلاء المصابين إذا ما ثبت إصابتهم، ولكنه لا يحقق هدفا آخر لا يقل أهمية وهو تقدير حجم انتشار المرض وسرعة محاصرته.
ببساطة لأنه يتجاهل عدة فئات منها المصابين الذين يظهر عليهم أعراضا طفيفة وكثير منهم لا يدرك أنه مصاب، أو المصابين الذين لا تظهر عليهم الأعراض أو المصابين قبل أن تظهر عليهم الأعراض. وهذه الفئات سويا تشكل نسبة كبيرة من المصابين الذين يمكنهم نشر المرض بسهولة، وبالتالي فسرعة اكتشافهم وعزلهم ضرورة للسيطرة على العدوى.
وربما هذا يفسر نسبة الوفيات العالية في مصر رغم قلة عدد المصابين نسبيا. فنسبة الوفيات في مصر (نسبة الوفيات من إجمالي عدد المصابين) تتجاوز 7 في المئة وعندما سأل عمرو أديب في برنامجه "الحكاية"، الدكتور خالد مجاهد المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة عن ارتفاع النسبة، أجاب وقال: 30 في المئة من الوفيات توفوا قبل أن يصلوا للمستشفيات و30 في المئة توفوا بعد يوم أو اثنين من وصولهم للمستشفيات، محاولا تبرير هذا النسبة العالية.
ولكن الحقيقة أن هذه الأرقام تعكس أن نسبة ليست بقليلة من المرضى إما لا يخضعون لاختبارات أو يخضعون لاختبارات في مرحلة متأخرة من الإصابة، وهو ما يؤكد مرة أخرى على خطورة سياسة محدودية إتاحة الاختبارات.
وعند سؤاله لماذا لا يتم إتاحة الاختبارات حتى لو بمقابل مادي لمن يريد أن يطمئن على نفسه. قال في إحدى المرات نحن نتبع نفس أسلوب اليابان، ولكن الحقيقة أن اليابان بدأت تتزايد فيها الإصابات وبدأت تتراجع عن سياسة محدودية الاختبارات.
النجاح في السيطرة على الوباء غير ممكنة عمليا بدون التوسع في الاختبارات
وفي حلقة أخرى في نفس البرنامج قال إن الولايات المتحدة لا تختبر الأشخاص الذين لا تظهر عليهم أعراض، وهو ما يعتبر إلى حد ما حقيقي. ولكنه مرة أخرى تغافل عن أن الولايات المتحدة أجرت حوالي 3.5 مليون اختبار وأنه في اللحظة الحالية أكثر من 1 في المئة من السكان قد خضعوا بالفعل للفحص.
فنسبة الاختبارات في الولايات المتحدة تخطت الـ 10 آلاف لكل مليون، في مقابل 224 لكل مليون في مصر، أي حوالي 45 ضعف. فضلا عن أن النقاش حول إتاحة مزيد من الاختبارات هو النقاش الأهم حاليا في أميركا، خصوصا مع نية الرئيس الأميركي دونالد ترامب إعادة فتح البلاد للعمل في مايو، مما يتطلب توفير أعداد ضخمة منها.
ولعل من أفضل الدول التي حققت نجاحا ملحوظا في أزمة كورونا هي كوريا الجنوبية التي ساهمت فكرة التوسع في الاختبارات في الوصول إلى تقدير واقعي لعدد الحالات وعزل المرضى حتى الذين لا تظهر عليهم الأعراض بسرعة قبل أن ينقلوه العدوى لغيرهم ويتفشى المرض.
وفي النهاية علينا أن نعترف إن ما نطلبه ليس سهلا على الإطلاق. فتوفير الاختبارات بأعداد كبيرة يستلزم توافر موارد مادية وبشرية ولوجستية ضخمة، ولكن التجربة تقول إن النجاح في السيطرة على الوباء غير ممكنة عمليا بدون التوسع في الاختبارات. ولهذا فمهما كانت تكلفة الاختبارات، هي لا تقارن بتكلفة علاج الأزمة لو لا قدر الله تفشى الوباء، فالوقاية ليست فقط أفضل من العلاج لكنها أوفر بكثير!