يعتقد العلماء والأطباء أن للجائحة ذروةً تبدأ بعدها أعداد الإصابات بالانخفاض، مثلما حدث في كوريا الجنوبية والأردن، وحتى نسبيا في الصين. يبدو أن "نظرية المؤامرة" شارفت على بلوغ ذروتها أيضا قبل نهاية أبريل الجاري.
خلال الأشهر الثلاثة الماضية، لم تبق تهمة تخطر على خيال إلا وتم إطلاقها وترويجها عبر وسائل الاتصال الاجتماعي وكأنها أعجوبة العالم الثامنة. بعد مئات الاتهامات الموجهة إلى الولايات المتحدة أو الصين أو فرنسا أو سواها، ظهرت نظرية عجيبة مفادها أن خطأ أميركيا تسبب في إطلاق غاز السارين في أفغانستان، تم بعده إيفاد عسكريين مصابين بالتلوث للمشاركة في دورة الألعاب الرياضية العسكرية التي أقيمت في ووهان، فانتشر الفيروس منها إلى العالم.
من الواضح أن هذه النظرية محاولة يائسة لتبرئة الصين من إخفاء ظهور فيروس كوفيد-19 مدة ستة أسابيع ريثما يتم توقيع الاتفاق التجاري الأميركي ـ الصيني. رغم هذه الفضيحة، تفتق ذهن مبتدع نظرية مؤامرة جامحة الخيال عن تواطؤ صيني ـ أميركي مشترك لنشر جائحة في العالم بأسره.
من المعروف أن أول سؤال يطرحه المحقق الذكي في الأدب البوليسي هو: "من المستفيد؟" بالتأكيد، أنا لا أنفي احتمال صحة بعض نظريات المؤامرة في التاريخ الحديث، فهي أمر مثبت ومألوف ضمن أنشطة الاستخبارات العالمية، لكن الأمر مختلف بالنسبة لجائحة كوفيد-19، التي خربت اقتصاد دول العالم كله، وشلت إنتاجها وضعضعت ميزانياتها، بحيث ربما كان السؤال الأكثر منطقية وجدوى هو: "من المستهدف بالضرر؟".
خلال الأشهر الثلاثة الماضية، لم تبق تهمة تخطر على خيال إلا وتم إطلاقها وترويجها عبر وسائل الاتصال الاجتماعي وكأنها أعجوبة العالم الثامنة
أتوقع أن يتنامى وعي لدى الناس أنه إذا ثبت أن أية جهة من الجهات عمدت عن سابق عمد وتصميم إلى نشر فيروس مميت، حتى ولو أدى إلى إصابة بلدها مع العالم كله بكارثة إنسانية واقتصادية رهيبة، فإن اكتشاف هذا من شأنه أن يؤدي فورا إلى إشعال فتيل حرب عالمية ثالثة. أما إذا تسببت جهة ما في نشر الفيروس نتيجة خطأ مخبري، أو أخفت عمدا معلومات مما أدى إلى تفشي جائحة في معظم دول العالم، فإن هذا السلوك غير الأخلاقي يفترض أن يستدعي مستقبلا محاسبة دولية صارمة.
قام موقع يدعى "مؤشر مسبار" بدحض وتفنيد 35 إشاعة مضللة غزت الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي. طالت الإشاعات بعض شخصيات السياسة ونجوم الفن والرياضة، فضلا عن إشاعات اكتشاف علاج أو لقاح من أشخاص عرب.
هذه الشائعات المضللة مغرضة، سواءً كان دافعها الدعاية لطائفة تنتمي لدين سماوي، أو الدعاية لعقيدة سياسية دنيوية، أو مجرد الإثارة والعبث. نقتطف الأمثلة التالية: إصابة بابا الفاتيكان بالفيروس، إغلاق الحرم المكي، إعدام المصابين بكورونا في كوريا الشمالية، دفن ضحايا كورونا الإيرانيين في العراق، انتشار كوفيد-19 في المدارس المصرية، إشاعة اعتناق ملايين الصينيين أو الإيطاليين الإسلام لحماية أنفسهم من الفيروس.
من ناحية أخرى، تداول الروس مؤخرا مقطعا من فيلم سوفياتي قديم صوِّر في عام 1956 عن الطبيب العربي ابن سينا، الذي ولد في عام 980م وتوفي في همدان (الواقعة في إيران حاليا) عام 1037م. إذا صدقت الترجمة العربية للحوار الروسي الذي يتحدث فيه ابن سينا عن "الموت الأسود"، فإنه يصف أعراضا مطابقة لأعراض فيروس كوفيد-19. لا بد من أن نتساءل أمام هكذا إعجاز: هل يعرض الفيلم اكتشافا موثقا ورائدا لعبقرية ابن سينا، أم يعرض نبوءة "كي. جي. بي." عن فيروس يؤدي ظهوره إلى تخريب العلاقات الاقتصادية المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين؟
بعيدا عن المزاح، فإن البروفيسور الروسي المتخصص في الاقتصاد الدولي فالنتين يوريفيتش كاتاسونوف كتب مقالا خطيرا بعنوان "فيروس كورونا بدلا من الحرب العالمية: تأملات حول الدورة الاقتصادية ـ الفيروسية". تضمن المقال مقارنة بين وضع الكساد الاقتصادي في الولايات المتحدة في عام 1929 والوضع الاقتصادي الراهن الذي بدأت طلائعه في 2008.
ليس تحليل كاتاسونوف (الذي شغل منصبا رفيعا) هو الأخطر، وإنما تلميحه إلى أن الرأسمالية الغربية فكرت بإشعال حرب عالمية ثالثة، لكنها أحجمت عن ذلك بسبب توقع استخدام أسلحة الدمار الشامل، لذلك قررت إشعال "الحرب الهجينة" أو "الحرب الفيروسية"، التي تستخدم فيها "الوسائط المالية، التجارية، الاقتصادية، النفسية، الإعلامية، الوسائل السيبرانية، وأساليب أجهزة الاستخبارات، من أجل خلق حالة من الرعب تمكن نخبة معينة من أصحاب الأموال الكبيرة من السيطرة على الاقتصاد العالمي".
هذا نموذج جاد لنظرية المؤامرة، يختلف عن النماذج الهزلية. على سبيل المثال، نشرت عدة مواقع عربية وأجنبية أنباءً مفادها أنَّ فيروس كورونا حاصل على براءة اختراع أميركية منذ عام 2015، وأن تصنيع الفيروس أتى في سياق الحرب البيولوجية التي يحاول أقطاب العالم امتلاك أسرارها.
تتبع "مؤشر مسبار" هذه الأنباء، وتوصل إلى البيان الصادر من معهد بريطاني أكد أنَّ الفيروس الذي حصل على براءة اختراع هو لنوع مختلف تماما من فيروس كورونا، لا يصيب البشر إطلاقا.
في الواقع، ألقى الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن كلمة طويلة في عام 2005 تحدث فيها عن ضرورة الاستعداد صحيا لاحتمال تفشي فيروس تشبه أعراضه فيروس كورونا. طالما حذَّر رئيس أميركي من ذلك علنا في خطاب متلفز، هل من المنطقي أن يقوم بإفشاء سر التآمر لتجهيز وإطلاق فيروس قاتل؟
هذه الشائعات المضللة مغرضة، سواءً كان دافعها الدعاية لطائفة تنتمي لدين سماوي، أو الدعاية لعقيدة سياسية دنيوية، أو مجرد الإثارة والعبث
كتب الباحث الاقتصادي الدولي ماريو فانيلا محذرا: "الأسوأ لم يأت بعد، ففي شهر أبريل هناك 6.61 مليون حالة بطالة تم تسجيلها في الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول في العالم، وفي غضون ثلاثة أسابيع، أسفر الضرر الذي لحق بالاقتصاد على النتائج نفسها التي حصلت خلال 18 شهرا الأولى من أزمة الكساد الأعظم".
يضيف الباحث: "تتموضع جميع اقتصاديات العالم معا في نظام مالي تعتمد فيه التجارة والائتمان على الدولار الأميركي بشكل أساسي. والمراكز الرئيسية الثلاثة الموجودة حاليا هي الولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي، وتتسم جميعها بخصائص وعيوب جوهرية". أضاف قائلا: "في أوروبا، يمكن أن يؤدي النزاع السياسي بين الدول الأعضاء، وما ينتج عن ذلك من حالة من الجمود المستمر والمتعب وغير الملهم، إلى اندلاع أزمة ديون سيادية". ويوضح الباحث أن الصين نفسها ليست بمنجاة من التأثيرات الاقتصادية السلبية للجائحة، وأن بنك الشعب الصيني يعمد إلى إجراءات عاجلة لمواجهة تفاقم انعكاسات الأزمة.
المهم أن يطرح كل إنسان على نفسه السؤال التالي: هل يمكن لمنطق أن يقبل أن طرفا ما يعمل ضد مصلحة بلاده الاقتصادية وسلامة شعبه؟ هل يوافق العقل أن تعرض جهة ما وطنها إلى ركود وموت غير مسبوقين خلال قرابة قرن، يوديان بحياة بأعداد هائلة من الضحايا الأبرياء اختناقا أو جوعا بسبب الغلاء والبطالة، فضلا عن تضاعف الجريمة طلبا للقمة العيش؟
في الواقع، صدق القول إن أكثر متضرر هذه الأيام من كارثة كورونا هو الحرامي، فالشوارع مليئة برجال البوليس لفرض منع التجول، والبيوت مليئة بسكانها بسبب الحجر الصحي. أما إذا أراد أن يتوب، فالجوامع والكنائس ودور العبادة مغلقة!