في أواسط شهر أبريل من كل عام، ومع مرور ذكرى جلاء قوات الانتداب الفرنسية عن سوريا، تعود أصوات سورية غير قليلة، خصوصا تلك القريبة من مزاج المعارضة السورية، لطرح مسألة "تاريخ سوريا"، معتبرة أن حزب البعث ونظام الحكم الأسدي المديد، قد استوليا على هذا التاريخ، بسلطاتهم ومؤسساتهم التربوية والإعلامية والدعائية، عبر احتكار التاريخ بذاكرة البعث وأفعال النظام الأسدي.
مقابل ذلك، تطرح هذه الأوساط المعارضة مساحات أخرى من الخطابات وطيفا من الأحداث والمناسبات والذاكرة السياسية، معتبرة أنها تشكل التاريخ السياسي السوري "الحقيقي"، الذي "أخفته" وكبتته الحقبة البعثية. وأن المطروح من قبلها كتاريخ، إنما هو "حقيقة" ما كانت عليه سوريا ماضيا، وهو الديناميكية التي سيتشكل حسبها الحاضر والمستقبل السوري، فهذا التاريخ البديل ليس مجرد تاريخ، بل هوية.
تشكل الفترة الممتدة من النصف الثاني من الأربعينيات وحتى أواخر الخمسينيات، الحقبة الذهبية التي يركن إليها عقل التأريخ البديل هذا، إذ يعتبر تلك الحقبة المضاد النوعي والخلاق للعهد البعثي. يعتبره عصر الحريات العامة والديمقراطية السياسية والرخاء الاقتصادي والحيوية المجتمعية والسياسية.
لكن هذا التأريخ البديل، وحينما يذهب لفعل ذلك، فإنه يقع في جملة من المطبات و"المغالطات" والخطابات وأشكال الاستيلاء والتهميش، التي يتحول معها هذا التاريخ إلى مناظر شكلي لما فعلته الحقبة البعثية الأسدية بالتاريخ السوري، لكن مطابق لها حقيقة وجوهرا.
♦♦♦
فبالضبط، كما حوّل البعث القومية العربية، وعبر أشد أشكالها السياسي راديكالية، إلى ديانة أرضية، فوقية وكثيرة العنف، مفروضة على الذات الجمعية للسوريين، ماضيا وحاضرا، فإن التاريخ السوري البديل يريد للوطنية السورية أن تفعل ذلك. فـ"الوطنية" بالنسبة لهذا النزعة هي بداهة مطلقة، وأداة لقياس ضمائر وسلوكيات وخيارات الأشخاص والقوى السياسية والمجتمعية.
هذه الوطنية المتخيلة، والتي تملك جماعة أهلية سورية واحدة، تعتبر نفسها الأغلبية السكانية، وبالتالي الجهة المخولة لتحديد ملامح ورموز وديناميكيات هذه الوطنية الفجة، إنما تمارس نفس أفعال الإقصاء الرمزي والعنف المادي الذي كانت تفعله القومنة البعثية، التي كانت بدورها من فروض جماعة سياسية سورية واحدة بعينها فحسب، تعتبرها بداهة مطلقة وأداة لقياس الانتماء والضمائر.
البعث إذ ظل طوال حقبته يخفي ذلك، فإنه كان يتقصد من وراء تغييب المسألة الطائفية إخفاء الطبيعة الطائفية للنواة الصلبة للنظام الأسدي
في الحالتين، ثمة تغييب تام لفكرة الحداثة الرئيسية، التي تعتبر أن علاقة المواطنين ببلدانهم تعاقدية، قائمة على رزمة من الحقوق والواجبات الدستورية والقانونية المتبادلة، وفقط كذلك، وأن آراء ومواقف وسلوكيات وخيارات أمة المواطنين من مختلف قضايا البلاد، أياً كانت، لا يمكن أن تطيح بذلك التعاقد، أو أن تقلل منه ولو قليلا، أن تقرب مواطنا ما مركز الفعل العام في دولته أو تهمشه. فالأيديولوجيات والمعتقدات والمخيلات السياسية هي جزء من علاقة المواطنين فيما بينهم في المجتمع، وليس من علاقتهم مع الدولة، أو علاقتها معهم.
لذا، فإن كل ملامح وفروض القومية العربية التي فرضها البعث طوال تاريخه، والآلية التي صبغت عهده بالنزعات الفاشية، يمكن لها أن تكون كذلك بفعل ما كان وما قد يُعتبر "وطنية سورية".
♦♦♦
مثل التقية الخطابية البعثية/الأسدية أيضا، فإن التاريخ السوري البديل يجهد لإخفاء أهم مسألتين من عالم الاجتماع السياسي السوري، المسألتان الطائفية والأثنية، التي تشكل القضيتان العلوية/السُنية والعربية/الكردية أهم ملمحين لهما.
فالبعث إذ ظل طوال حقبته يخفي ذلك، فإنه كان يتقصد من وراء تغييب المسألة الطائفية إخفاء الطبيعة الطائفية للنواة الصلبة للنظام الأسدي. فأي نقاش في ذلك السياق، كان سيقود للسؤال عن تلك النواة. لذا كان الكبح المطلق لأي نقاش حول المسألة الطائفية، أداة لطمر طبيعة وسلوكيات النظام الطائفية.
كذلك فإن المسألة الأثنية كانت ستقود إلى التفكير بالأكراد السوريين، كأكبر جماعة إثنية غير عربية في البلاد، إلى جانب التركمان والسريان والأرمن، غير المرئيين وغير المُعترف بهم أبدا، ذلك التفكير الذي كان سيقود ربما لتنامي وشرعنة مطالب هذه الجماعات الإثنية.
التاريخ السوري البديل بدوره لا يطرح شيئا عن ذلك، عن أحوال العلويين والدروز والإسماعيليين وباقي التكوينات الطائفية من غير السُنة السوريين، في تلك الحقبة التي كانوا يعتبرونها "ذهبية"، عن حقوقهم في الفعل والمتن العام للبلاد طوال عمر الكيان السوري، في هوية ووثائق ومؤسسات الدولة السورية، التي كانت وما تزال عربية سنية بالمطلق. وطبعا لا تطرح شيئا بالمطلق عن الأوضاع العامة للأكراد السوريين وغيرهم من أبناء الإثنيات الأخرى قط، ولا تسعى حتى لسماع بعض من سردياتهم الخاصة، التي ربما تكون مختلفة عن تلك الحقبة "الذهبية".
لا يفعل التاريخ السوري البديل ذلك، بالضبط للسبب الذي كانت وما تزال تفعله البعثية الأسدية، لأنها تدرك تماما بأن مثل تلك الطروحات ضمن التاريخ السوري، إنما ستجر مجموعة من الأسئلة والمتطلبات في الحاضر، عن حقوق كانت مهضومة وجماعات كانت غير مرئية على الدوام، في ذلك العصر "الذهبي"، وفي الحاضر. وهو أمر لو تم تداوله، فأنه سيعني بأن مجموعة من الالتزامات المستقبلية يجب أن تفرض، لتجاوز تلك المظلوميات.
يسلي هذا التاريخ البديل نفسه ببعض الحكايات والأقاصيص عن العلاقة الإسلامية المسيحية التي كانت مثالية وقتئذ، متناسية عن عمد كمية هائلة من المرويات والحقائق التي تقول عكس ذلك تماما، على المستوى السياسي والاجتماعي في الآن عينه، وأن بعض ما كرسته هذه الذاكرة البديلة من مرويات، ممثلة بصورة فارس الخوري، إنما كانت شكلا نادرا واستثنائيا وقصير الأمد للعلاقة المسيحية الإسلامية التوافقية، وهي كانت تعبيرا عن تلاقي أمزجة ومصالح أبناء البرجوازية المدينية، في دمشق وحلب وبعض المدن الأخرى، وفقط كذلك. وأن مسيحيي باقي المناطق السورية، خارج هذه البقع المدينية، كانوا وما يزالون على خصام شديد مع جيرانهم المسلمين.
♦♦♦
على أن أبرز ما يدل على هوية وديناميكية هذه التاريخ السوري البديل، هو كتلة الأساطير والمتخيلات التي يطرحها عن شكل العلاقة التي كانت بين المجتمعات السورية والانتداب الفرنسي الذي طال لربع قرن.
فبالضبط كما تفرض وتتخيل المروية البعثية الأسدية البعثية نفسها، ومعها كل الشعب السوري رغما عنه، كقوة ممانعة ومواجهة مطلقة لإسرائيل والولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية، فإن التاريخ السوري البديل يفترض أن السوريين كانوا صفا واحدا ضد ذلك الانتداب الفرنسي طوال تلك الحقبة، وأنهم كانوا متوافقين مطلقا فيما بينهم على اعتبار فرنسا وانتدابها هو "الآخر"، المضاد لهويتهم وتطلعاتهم.
لا يكترث هذا التأريخ البديل لحقائق أدوار الحقبة الانتدابية في خلق ملامح الحداثة السياسية والمجتمعية والتعليمية والإدارية في سوريا
يفعل التاريخ السوري البديل ذلك، ليغض النظر عن الأدوار الجوهرية لذلك الانتداب الفرنسي في خلق الكيان السوري الراهن، عبر فرض سوريا الحالية على الكثير من النزعات السياسية والمناطقية، التي كانت ترفض الاندماج في الذات والكيان السوري، ولا ترغب في التحول إلى جزء منه.
يفعل التاريخ السوري البديل ذلك ليغض النظر عن شقاق وصراع داخلي في مناطق جبال العلويين وجبل العرب والجزيرة السورية طوال عقود كثيرة، شقاق بين قوى مجتمعية وسياسية تريد أن تكون جزء من سوريا، وأخرى ترفض ذلك تماما، عن جماعات وجهويات التي كانت تملك قطاعات واسعة من سكانها نزعات الانفصال عن سوريا الحالية، سوريا الكبرى، مثلما كان الموارنة اللبنانيون يفعلون ويعلنون طوال عقد العشرينيات القلق.
في الطريق لحياكة أسطورة المعادة المطلقة للانتداب الفرنسي، فإن هذا التاريخ السوري يسعى لإخفاء حقيقة واضحة، تقول بأن قطاعات واسعة من المجتمعات السورية كانت تملك تناقضا ورفضا لشكل الكيان الراهن، والذي فرضته فرنسا نفسها، أكثر بكثير من تناقضها مع الانتداب الفرنسي. شيء مطابق لما فعله التأريخ في الحقبة الأسدية البعثية، حيث عملت أساطير ممانعة ومقاومة الشعب السوري، على تغطية التناقض الأساسي لهذا الشعب، المتمثل برفضه لنظامه السياسي الحكام، الشمولي والفاسد والعنيف.
طبعا لا يكترث هذا التأريخ البديل لحقائق أدوار الحقبة الانتدابية في خلق ملامح الحداثة السياسية والمجتمعية والتعليمية والإدارية في سوريا، والتي منها انبثقت كل أشكال بهاء "العصر الذهبي" فيما بعد.
يمكن العثور على أشكال التطابق في كل تفاصيل مختلف التواريخ عن كيان مثل سوريا، لأنها بمجموعها تواريخ سلطوية وناتجة عن نزعات أيديولوجية وذوات أهلية، وليست مستندة إلى أعراف ومناقب مؤسسات الدولة، التي تنتج الماضي بكثير من البرود الوجداني والعقل النقدي، تنتج ذلك الماضي بالضبط كما تنتج الحاضر. وما أبعد سوريا اليوم لأن تكون دولة!