A man flies a kite with the phrase "Stay at home" as part of an initiative launched by Jordan Kuwait Bank to support unemployed…
عمان كما تبدو من إحدى تلالها

في سياق وطأة "الحصار" العالمي تحت ثقل فيروس عديم الوزن نسبيا، وبينما تنغلق الدول وتصبح إدارة "الهلع" هواية جانبية للسلطات في كل مكان، لا يزال عالمنا العربي قادرا على اجتراح المعجزات "العبثية" التي لا فائدة منها، مثل استحضار "الشرف" الرفيع والدفاع عنه والانشغال حد حرب وشيكة بما لا يهم إطلاقا.

قصص كثيرة هنا وهناك في عالم "الخبز والحشيش والقمر" تكشف عن عمق "الخيبة الجنسية" وتحويلها إلى افتراس معنوي باسم الشرف، هذا الرفيع الذي لا يمكن أن يسلم من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم.

لماذا الشرف رفيع؟ كيف تم تحديد قياساته أساسا؟ ولماذا هو معرض للأذى، ومن هو المؤذي والمتأذي تباعا؟ وكيف تم تحديد أبعاد الشرف ليتضح أن له جوانب مثلا يراق عليها الدم؟ ولماذا الدم هو الحل دوما؟

أكتب كل تلك التساؤلات، وأنا أتعرض لحملة سباب وتقريع شديد، بل ورجم بالألفاظ والنعوت على خلفية إدراج "فيسبوكي" كتبته معلقا على قضية شغلت الأردن والأردنيين وهم تحت الإغلاق والحجر.

كل ما حدث، أن سيدة اوكرانية يقال إنها تعمل في الجنس كما أعلنت هي عن نفسها، نشرت صورا لها على سطح منزلها في العاصمة الأردنية وكانت شبه عارية.

استفزني كل هذا النفاق الكامن في عبارة "مواقع تحض على الفجور" وكأننا أمام مجتمعات خالية من الخطايا

صارت السيدة حديث الساعة في الأردن، وانبرى "حراس الفضيلة"، وهم تجارها فعليا، لخلق قضية رأي عام عاصفة، وطبعا هذا سيستدعي تدخل الدولة الرسمي فورا، نفس الدولة التي سمحت قوانينها للسيدة "أولغا" أن تدخل البلاد، والدولة التي نظمت إقامتها وآليات عملها عبر كفيل ما، وهي الدولة الملزمة بحمايتها حسب القوانين كمقيمة مكتملة الأوراق القانونية مدفوعة الرسوم والطوابع، هي ذاتها تلك الدولة التي تنطحت برد الفعل الفوري على محاكم التفتيش الأخلاقية لتصدر خبرا في نصه عن تلك السيدة أنها "تدير صفحات على مواقع التواصل تحض على الفجور".

وكنت كتبت في الإدراج أن تلك الجملة كانت الأكثر إضحاكا وغرقا في العبث مما ورد في كل الأخبار عن تلك السيدة المتشمسة على سطح بيتها المؤجر لها بعقد قانوني بلا شك.

لم أكن بصدد ولا بنية الدفاع عن السيدة، وبالتأكيد لست من يملك حق الحكم عليها أو إدانتها، وللتوضيح، فأنا وفي بلجيكا حيث أقيم، إنسان محافظ اجتماعيا، لدي منظومة قيم محافظة لكنها ليست معتقدا أواجه به الآخرين ممن يختلفون عني، ولا أحمل حجرا في يدي بالمطلق.

كل ما استفزني في قصة تلك السيدة هو تداعيات الموضوع، وتعظيمه حد الوصول به إلى قضية رأي عام، ثم رد فعل الدولة الرسمي المغذي لكل هذا الغضب والعبث، ومن تلك الثغرات يتسلل حراس الفضيلة في مجتمعات النفاق الاجتماعي ليغرسوا الحلول البديلة "والوحيدة برأيهم"، فيبدأ التطرف الديني عبر تسريب "النص المقدس" وهو نص عادي لشيخ نصف أمي أو نصف جاهل عاش قبل قرون من اليوم، ويتم محاولات تأطير المجتمع بمنظومة قيم وأخلاق ذلك النصف جاهل الذي عاش قبل قرون.

صور السيدة التي أثارت الضجة في الأردن، أكثرها عريا لا يصل إلى مستوى مصفوفات الصور ومقاطع الفيديو التي يتداولها الرجال عموما في زمن الواتساب على أجهزتهم الخلوية، وتحت مسميات "نكت وطرائف +18". وليس عندي تردد بالجزم أن معظم من تنطح بالشرف ليهاجم السيدة ويدعو إلى مجتمع كامل الأخلاق حد الملائكية في عفته، يملكون في ذاكرة هواتفهم من الصور ومقاطع الفيديو ما يهدم مجتمع ملائكة حقيقي في السماء.

استفزني كل هذا النفاق الكامن في عبارة "مواقع تحض على الفجور" وكأننا أمام مجتمعات خالية من الخطايا، ومغرقة بالمثالية المتطهرة حد التعفف المطلق، ولا ينقصها إلا من "يحضها" على الفجور، فيتهدم صرح "الشرف".

مع أنه وفي الواقع اليومي المعاش، فإن تداعيات الشرف الرفيع الذي سال على جوانبه الدم، كله فجور يومي صار عادة.. وليست سرية.

♦♦♦

الأمر ليس مقصورا على الأردن، ففي مصر أيضا، وقبل أيام، قامت الدنيا ولم تقعد على فتاة مصرية صارت خبرا وقضية رأي عام، مع أن كل المحتوى الذي تقدمه على وسائل التواصل الاجتماعي الخاص بها ليس له قيمة لا فنية ولا ترفيهية حتى، لكن حراس الفضيلة ممن يتوهمون أنهم يملكون الحق بضبط المجتمعات وتقويم سلوك الأفراد فيها، لم يرق لهم أن تقوم فتاة بتقديم محتوى "بالنسبة لي تافه جدا" على صفحاتها الشخصية. 

نحن أمام جمهور هو الذي يصنع الرذيلة أو الفضيلة، جمهور بعدده وكميته هو الذي يحدد المحتوى ويغري بصناعته

المشكلة كانت بأن رئيس جامعة القاهرة نفسه، ترك مشاغله الأكاديمية ومسيرة البحوث العلمية المفترض جريانها في الجامعة (إن وجدت طبعا)، وانشغل بالتصريح عن الفتاة وانه قرر تحويلها للجنة تحقيق، لأن سلوكياتها حسب وصفه: "تتنافى مع الآداب العامة (!) والقيم والتقاليد الجامعية". ولم يترك الأكاديمي قضية الفتاة للقانون وأجهزته المعنية (إن كان لها حق بالتدخل)، لكنه آثر أن يكون من حراس الفضيلة خصوصا بعد موقفه المحرج قبل فترة وجيزة، أمام شيخ الأزهر الذي قرعه وقوض وجهة نظره الأكاديمية بمنطق أزهري عمره ألف عام.

يتحدث الخبر أيضا عن تلك الفتاة، بأن هناك اتهامات تطالها تتعلق بنشرها فيديوهات تدعو فيها الفتيات لتسجيل فيديوهات "غير لائقة" مقابل مبالغ مالية.

مدهشة تلك الاتهامات المغلفة بالفضيلة الكاذبة، في زمن يمكن لأي كان أن يتلقى مبالغ مالية عن أي محتوى يجد له جمهورا كافيا بالحد المطلوب لتكون صفحته منصة إعلانات.

نحن أمام جمهور هو الذي يصنع الرذيلة أو الفضيلة، جمهور بعدده وكميته هو الذي يحدد المحتوى ويغري بصناعته، وهو الذي في المحصلة يصنع تلك التفاهات من المحتوى، وهو أيضا من صنع تلك المهنة الجديدة في عصر تكنولوجيا المعلومات: مهنة "المؤثر". وبصراحة أثبتوا أنهم مؤثرون على كل كمية التفاهة التي يقدمونها.

♦♦♦

في كل مرة أسمع فيها قصة من تلك القصص، أتذكر الرواية المعروفة عن المسيح، حين سألوه عن الخاطئة وحكمه فيها، وبدون أن ينفعل وبهدوء يضج بالحكمة قال: من كان منكم بلا خطيئة، فليرجمها بحجر.

تداعى حراس الفضيلة وسقطت الأحجار من أيديهم، ورحلوا جميعا من المكان (ساحة المحكمة والعقاب)، وبقي المسيح مع المرأة فقال لها مستكملا ضجيج الحكمة الخالدة: وأنا أيضا لا أحكم عليك، اذهبي ولا تخطئي بعد الآن.

لم يعرف أحد يوما اسم المرأة (هي ليست مريم المجدلية)، لقد تلاشى اسمها مثلما تلاشت أفعالها، وبقيت الحكمة حتى اليوم وحدها هي التي تحاكم ضميرنا الإنساني: من كان منكم بلا خطيئة.. فليرجمها بحجر.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.