A women wearing a facemask peeks from a iron fence as they wait to receive free wheat from the government emergency committee…
نساء أفغانيات في انتظار الحصول على المساعدات الحكومية

يتساءل آلان دونو في كتابه "نظام التفاهة"، "ما هو جوهر كفاءة الشخص التافه؟ إنه القدرة على التعرف على شخص تافه آخر. يدعم التافهون بعضهم بعضا، فيرفع كل منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، لأن الطيور على أشكالها تقع. ما يهم هنا لا يتعلق بتجنب الغباء، وإنما بالحرص على إحاطته بصور السلطة. كن مرتاحا في إخفاء أوجه قصورك في سلوكك المعتاد، ادع دائما أنك شخص براغماتي، وكن مستعدا للتطوير من نفسك فالتفاهة لا تعاني من نقص لا بالقدرة ولا بالكفاءة" (70). 

يذهب الكاتب للتأكيد على أن "التفاهة (بالفرنسية mediocrite) هو الاسم الذي يشير إلى ما هو متوسط" (70) أي ليس الشيء رفيع المستوى ولا المتدني، وإنما الوسط، لربما الوسط الفارغ المدعي طوال الوقت، حسب ما فهمت من الكتاب، القادر على استخدام كلمات رنانة وعلى "تشغيل تطبيقات الحاسب الآلي" (70) دون عمق حقيقي، دون إعمال العقل فهما وتأثيرا. هي حالة مستمرة من التظاهر بالإدراك، تظاهرا مغلفا بكلمات رنانة لا تعمل سوى على تعميق نخر التفاهة في عقل صاحبها وعلى تفعيل آثارها بقوة وسرعة في مجتمعه.

تقول د. مشاعل الهاجري في مقدمتها الرصينة المطولة للكتاب أن نظام التفاهة يقصد "إلى إسباغ التفاهة على كل شيء. وتكمن الخطورة الحقيقية للأمر في كون هذه المهمة سهلة وممكنة التحقق بسلاسة" (59). ترى المترجمة أن هناك طريقتين ثبتتا نظام التفاهة في واقعنا وهما البهرجة والابتذال، والمبالغة في التفاصيل. 

فالتفاهة تتطلب عملا كثيرا حسب تعبير المترجمة، تستغرق وقتا ومجهودا إلا أنهما لا ينتجان سوى بهرجة فارغة لا تحقق شيئا يذكر. ولربما تكون مواقع التواصل مطابخ جيدة لصنع التفاهة "فقد نجحت هذه المواقع" تقول المترجمة "في ’ترميز التافهين‘ كما يقال، أي تحويلهم إلى رموز" (52). 

هناك بهرجة مرتفعة لكل إجراء تتخذه الحكومات، مع ارتفاع للمشاعر الوطنية المبالغ بالتعبير عنها حد تحولها إلى ما يشبه العنصريات

ما يثير القلق في هذه الفترة الوجودية العصيبة من التاريخ البشري المتزامنة مع انتشار التفاهة حسب رأي آلان دونو هو التفكير في إجابة حول هذا السؤال المقلق: من يقود الدفة للخروج من هذه الكارثة البشرية؟ من الذي يصنع الرأي العام؟ من الذي يشكل السياسات والإجراءات المفعلة الآن لحماية البشر؟ من الذي يقرر ويدير الأمر برمته؟

أحيانا يبدو أن الأمر يدار خلف الأبواب المغلقة ويدبر بليل، ليس لحماية البشر ولكن لحماية الاقتصاد حتى ولو كلفت حماية الاقتصاد معظم أرواح البشر، لا أدري من سيبقى لهذا الاقتصاد إن فني صانعوه. وأحيانا يبدو أن الأمر برمته يدار عشوائيا وإعلاميا على طريقة تجربة ونتيجة، نجرب هذه الطريقة، إذا مات الكثيرون لربما هي طريقة غير ناجحة. 

بريطانيا تبنت سياسة مناعة القطيع، أميركا تبنت سياسة الاقتصاد قبل القطيع، الصين تبنت سياسة آخر الهم هو القطيع، لتنثر هذه السياسات العشوائية رذاذها حول العالم أجمع لتتشكل سياسات مختلفة مبللة بهذه "السياسات الكبرى" في دول ومجتمعات العالم الأخرى لتتشكل بدورها سياساتها كل حسب طبيعته، أولوياته وعنصرياته.

ولأننا، كبشرية، متصلون باستمرار الآن عبر وسائل التواصل والإنترنت، تسود التفاهة بشكل ربما غير حقيقي في عكسها لواقع الحال، على الأقل نتمنى ذلك. هناك بهرجة مرتفعة لكل إجراء تتخذه الحكومات المختلفة، مع ارتفاع غير واضح استحقاقه للمشاعر الوطنية المبالغ بالتعبير عنها حد تحولها إلى ما يشبه العنصريات المطلة برأسها البشع من خلف تعبيرات محبة الأوطان والفخر بها. 

هناك كذلك مبالغات في إظهار الآثار النفسية خصوصا في المجتمعات الأكثر راحة واستقرارا، حيث يمتلئ تويتر، الذي يكتب فيه مغرديه من خلال أجهزتهم الفاعلة وبواسطة إنترنت لا يزال يعمل بكفاءة، بشكاوى الشعور بالاكتئاب بسبب الخمسة أو الستة أسابيع من العزل التي يمر بها العالم وذلك حسابا للفترة الزمنية لما بعد انتشار الفيروس من الصين لبقية الكرة الأرضية. 

وعلى حين أن الاكتئاب مرض حقيقي خطر وأن هناك كثيرون ممن يعانون آثاره الحقيقية تباعا للأزمة الحالية، فإن ابتذال الشكوى المستمرة بوجود سقف فوق رؤوسنا ولقمة على طاولاتنا تبدو صورة من صور التفاهة البرجوازية لأشخاص يستخدمون كارثة عميقة للتعبير عن حالاتهم النفسية المؤقتة المتأثرة بإغلاق سوق أو بإيقاف خدمة مطعم. 

نظرة إلى الشوارع الهندية على سبيل المثال وما يحدث هناك من تهجير للعمال من المدن ثم من منعهم من العودة إلى قراهم ثم من إبقائهم في الشوارع عرضة للإصابة والجوع والأذى يفيدنا كم أن المعاناة أحيانا لا تترك مجالا للشعور بالاكتئاب، هؤلاء غير مكتئبين، لا وقت لديهم لذلك.

تقتبس د. مشاعل الهاجري في مقدمتها من حديث نيتشه عن الشعراء المدعين الذين كانوا "يكدرون مياههم، كي تبدو عميقة" (62). من الاطلاع المستمر على وسائل التواصل، يبدو أن كثيرون ينحون هذا المنحى، يكدرون مياههم لتبدو أعمق، في حين تذهب الحكومات للاتجاه المعاكس تماما، لا يتحركون مطلقا حتى تصفى مياههم تماما فتبدو أكثر شفافية. 

هناك كذلك مبالغات في إظهار الآثار النفسية خصوصا في المجتمعات الأكثر راحة واستقرارا

شيء ما في هذه الصورة يبدو عميق التفاهة في الإطار الأكبر للكارثة الإنسانية التي نمر بها. محاولات الحكومات إظهار سيطرتها على الأوضاع كما محاولات الأفراد إظهار فقدانهم للسيطرة على نفسياتهم وأمزجتهم، كلها تبدو ضروب من التفاهة في التعامل بالمعنى الذي يقدمه كتاب "نظام التفاهة"، أي ضروب من التعاملات غير المؤثرة، المبهرجة شكلا وغير الفاعلة موضوعا. 

ماذا نستفيد من مسؤول يخبرنا بحكمة وحسن إجراءاته؟ ربما مقدار استفادتنا من مرفه يخبرنا بمدى تأثره بالأزمة الحالية وهو يسكن بيته ويمسك تلفونه بيد والساندويش بيد أخرى. 

هل هي سيطرة التفاهة، بمعنى سيطرة المستوى الوسط المائع الخال من المعنى والقيمة على كل شيء في حياتنا، علينا كبشرية بأكملها، القائد والمقاد؟ أم هي الأزمة تدفعني، ربما بحكم تفاهة شخصية، أن أسبغ أحكامي بهذه الصورة؟ لدي خوف حقيقي من أن يكون التافهون، متوسطو المستوى في كل شيء، على دفة القيادة الآن، فلا نحن سننجو ولا نحن سنفنى باحترام.

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.