هشام الهاشمي
هشام الهاشمي .. تصوير علي كيتو | Source: Handout

يقول الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي إن "الحياة قصيدة، أعمارنا أبياتها والموت فيها القافية متع لحاظك في النجوم وحسنها فلسوف تمضي والكواكب باقية".

يأتي اغتيال الزميل والصديق هشام الهاشمي في العراق من قبل مسلحين بمثابة صدمة لمن عرفه ومن لا يعرفه. ليس لأن لغة الاغتيالات في العراق غير مألوفة بل لأسباب أخرى أهمها شخصية هشام وخبرته وأخلاقه وتفانيه لخدمة قضية السلام في بلده، كما وبسبب التفاؤل الذي شعره كثيرون بعد تولي السيد مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة والخطوات التي بدأ باعتمادها.

هشام ليس أول ناشط يقتل ولن يكون الأخير مع الأسف. الموت والفراق أليم ومفجع ولكن تبعات التصفية الجسدية في السياسة أخطر من الفعل نفسه. واغتيال هشام ـ كما الاغتيالات الأخرى ـ يحمل رسائل متعددة الجهات.

بالإضافة إلى دوره كمحلل ومفكر وباحث، برع هشام في إلقاء الضوء على الفساد ـ بجميع أشكاله السياسي والمالي والإداري ـ المستشري في الطبقة السياسية والأمنية (الرسمية والشبه رسمية) من أقصى يسارها إلى أقصى يمينها. وليس غريبا أن تكون إحدى انعكاسات الاغتيال إسكات الأصوات التي آلت على نفسها محاربة الفساد.

أفضل رد على اغتيال هشام هو استغلال الظرف من قبل الحكومة لسد الطريق أمام الممارسات القاتلة التي اعتمدت لفترة طويلة في العراق

من ناحية أخرى، إن النهج الذي اعتمده هشام ـ وآخرون ـ يعتمد على أسس ليبرالية إلى حد ما. إذ أنه روج ومارس حرية التعبير ونشر مفاهيم عدم الإقصاء وحسن إدارة التعددية والمساواة وحرية العمل السياسي وعناصر أخرى من حقوق الإنسان. والاغتيال في هذه الحالة لا يطال الشخص فقط بل يؤثر على مساحة الحرية والعمل السياسي في العراق.

منذ بدء الحراك في الشهر العاشر من العام المنصرم، عمل هشام مع بعض زملائه على تظهير رؤى موحِدة وبناءة بين مكونات الحراك كما وبين الحراك والسلطة. وتأتي عملية الاغتيال هذه ـ بالإضافة إلى القتل المتعمد لبعض وجوه الحراك والمتظاهرين ـ كجزء من تصفية الحسابات من طرف بعض الأحزاب والمجموعات المسلحة التي ضاقت ذرعا بوجود من ينتقدها ويكشف عوراتها محليا وإقليميا ودوليا. 

إن عدم محاسبة القتلة في الأشهر السابقة ساهم في "تشجيع" بعض تلك المجموعات على المضي في سياسة التصفية الجسدية. وها هو هشام يدفع ثمن عدم قيام الأجهزة الأمنية والقضائية بدورها كما يجب وهو أمر لطالما انتقده الشهيد في العلن وفي الخاص.

من المعروف أن هشام هو جزء من مجموعة غير رسمية وغير مؤطرة مؤلفة من ناشطين وناشطات، مفكرين ومفكرات، خبيرات وخبراء، إعلاميات وإعلاميين...إلخ. جهد أعضاء هذه المجموعة ـ منفردين أو ضمن مجموعات صغيرة ـ خلال السنوات الماضية على إبقاء جسور التواصل بين مختلف مكونات المجتمع العراقي وبين المجموعات التي تشغل المشهد السياسي في بلاد ما بين النهرين. كما لعب هؤلاء ـ وهشام منهم ـ على توفير مساحات حوار ومقترحات وأفكار لصانعي القرار في العراق والمهتمين في الشأن العراقي. إن قتل هشام أو أي شخص آخر من هذه المجموعة سوف يثني الكثيرين عن الاستمرار بلعب دور بناء وإيجابي وصلة الوصل بين المجتمع وصناع القرار.

ها هو هشام يدفع ثمن عدم قيام الأجهزة الأمنية والقضائية بدورها كما يجب وهو أمر لطالما انتقده في العلن وفي الخاص

يعتبر العمل والتواصل مع المنظمات الدولية والسفارات الأجنبية في منطقة الشرق الأوسط موضوعا جدليا يستخدم لتسقيط سياسيين وإعلاميين وناشطين وغيرهم: إذ أن الرأي العام في منطقتنا غالبا ما يستسيغ نظريات المؤامرة ليبدأ بتركيب قصص وسيناريوهات عادة ما تكون خيالية. 

لم يسلم هشام من آتون التخوين فتعرض لأبشع الحملات المضللة والمغرضة فقط لأنه يعمل مع مؤسسات إعلامية غير عراقية ويتعاون ـ بصفة استشارية ـ مع منظمات دولية. كما وتسبب له عمله ونشاطه بتهديدات مباشرة وضمنية بالقتل لم تثنيه يوما عن المجاهرة بحقيقة الأمور. 

ويكتسب عمل هشام أهمية خاصة إذ أنه سمح للعديد من الدبلوماسيين والعاملين على الملف العراقي من غير العراقيين بالولوج إلى معلومات وتحاليل من زاوية عراقية بحتة ومفارقات محلية لا يستطيع الشخص الغير عراقي ملاحظتها أو حتى فهمها. هذا الجهد عزز فعالية وأثر بعض البرامج الممولة من المجتمع الدولي وأضفى مزيدا من المشروعية لمبادرات أجنبية كانت تفتقد إلى تلك "المعرفة المحلية". 

إن تصفية مفكرين وناشطين عراقيين كهشام سوف يدفع البعض منهم إلى تجنب التواصل أو العمل مع المجتمع الدولي وبالتالي سوف يؤثر في تنفيذ العديد من المشاريع ويعيق إيصال عنصر "المعرفة المحلية العراقية" إلى من يهمه الأمر، فتهيمن عقلية "الاستشراق" التي تحلل الأمور في بلداننا من منظار أجنبي بحت.

إن عدم محاسبة القتلة في الأشهر السابقة ساهم في "تشجيع" بعض تلك المجموعات على المضي في سياسة التصفية الجسدية

تضاف هذه الاعتبارات إلى الاعتبار الأهم وهو واجب الدولة بحماية مواطنيها وإحقاق الحق عند التعرض لحقوقهم لتشكل أرضية صلبة ينبغي على رئيس ومكونات الحكومة اعتمادها لتقويض مقاربة الاجرام والتصفية الجسدية وإرساء إطار جديد يقوم على تقديس الحياة وكرامة الإنسان وحمايتهما من انتهاكات الأقربين والأبعدين. 

من الناحية العملية، يبدأ هذا الأمر بتحقيق جدي ومحايد والتزام من الحكومة بمحاكمة المرتكبين والمحرضين والمشاركين في هذه الجريمة بمن فيهم الرعاة السياسيين للقتلة. إن أي تسويف لهذا الملف سوف يؤدي إلى التساؤل عن مدى جدية الحكومة في القيام بأبسط أدوارها. 

أفضل رد على اغتيال هشام هو استغلال الظرف من قبل الحكومة لسد الطريق أمام الممارسات القاتلة التي اعتمدت لفترة طويلة في العراق وأدت إلى قتل ونفي وسجن العديد من الأبرياء فقط لأنهم تجرأوا على مساءلة تركيبة هجينة تمزج بين البعد المذهبي والسياسي والمصلحي والعشائري والشخصي وتبدّي المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. 

لم يتمتع العراق بنجومية هشام إلا لفترة قصيرة ولكن الحكومة اليوم ـ وبدعم من المجتمع الدولي ـ مطالبة بالمحافظة على الكواكب الأخرى وإلا حتى نظرية إيلي أبو ماضي بأن "الكواكب باقية حتى لو مضت النجوم" تصبح ساقطة. فليكن استشهاد هشام بزوغا لشمس الحق في بلد عانى أهله لعقود من سطوة الموت على إرادة الحياة.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.