A handout picture released by the Egyptian Presidency on April 7, 2020, shows Egyptian President Abdel Fattah al-Sisi (R)…
الرئيس المصري في زيارة إلى أحد قواعد المصري

بوادر الحرب بين تركيا ومصر تلوح في الأفق، ولا يجب الاستخفاف بها.

تركيا لا تضيع الوقت في ليبيا ولا تنوي التراجع. "سنبقى هنا إلى الأبد مع إخواننا الليبيين"، قالها وزير الدفاع التركي نهارا جهارا من طرابلس. حتى بعد أن ضربت "طائرات مجهولة" قاعده الوطية، التي تتمركز فيها القوات التركية، استمرت تركيا في التصريحات التصعيدية، وأعلنت عن مناورات عسكرية بالقرب من ليبيا.

أي تصعيد عسكري يحتاج إلى النية والمقدرة، وتركيا تملكهما. دوافع تركيا للتصعيد في ليبيا كثيرة:

أولا، ليبيا جزء من عقيدة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الجديدة: "الوطن الأزرق. حيث أعاد النظام التركي صياغة الأمن القومي التركي ليبرر توسعاته الإمبريالية في شرق البحر المتوسط، تحت عقيدة أسماها "الوطن الأزرق".

وهذه العقيدة عبارة عن مزيج مسموم من الرؤية الرومانسية للماضي العثماني، والقومية التركية، وخلطها بأحلام توسعية، تدمج الحس القومي مع فكر الإسلام السياسي، وتهدف إلى فرض الهيمنة التركية على بحر إيجة وشرق البحر المتوسط والوصول إلى الشمال الأفريقي.

المغامرة التركية في ليبيا تشبه إلى حد كبير مغامرة مصر في اليمن في ستينيات القرن الماضي

الكاتب التركي يافوز بيدار أوضح في مقال مطول عقلية صناع القرار في تركيا، وكيف أنهم يعتقدون أن الدفاع عن الأراضي التركية، يبدأ بالتمركز والسيطرة على الأراضي والدول المجاورة، ومن ضمنها ليبيا، لتكون خط الدفاع الأساسي عن أمن الدولة التركية.

ثانيا، تجار الوهم من الإسلاميين العرب. يروج الإسلاميون العرب من المقيمين في تركيا معلمات مغلوطة عن الوضع الداخلي في مصر لصناع القرار التركي. يدعي الإسلاميون أنهم ما زالوا يحتفظون بشعبية كبيرة داخل مصر، وأن الجيش المصري ضعيف ولن يصمد أمام القوة العسكرية التركية، وغيرها من الادعاءات غير الصحيحة. مما يجعل القيادة التركية تستهين بمخاطر مغامرتها في ليبيا وتعتبرها نزهة عسكرية بسيطة الأبعاد.

ثالثا، خطوط السيسي الحمراء. لا يخفى على أحد أن الرئيس التركي يعتبر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عدوه اللدود. هذا العداء أخذ منحى جديدا بعد تحذير الرئيس المصري بأن تجاوز مدينة سرت وقاعدة الجفرة الجوية الليبية تعتبر بمثابة "خط أحمر" لمصر "وأمنها القومي".

تركيا ترى أن التقاعس في التقدم تجاه خط سرت والجفرة سيعتبر انتصارا لرئيس المصري، وهذا ما لم تسمح به القيادة التركية. فالسلطان التركي لا يريد أن يظهر أمام أتباعه بمظهر الضعيف الذي رضخ لخطوط السيسي الحمراء.

مشكلة تركيا ليست في القدرة ولكن في التطبيق على أرض الواقع. نظرية الوطن الأزرق تبدو جذابة، ولكن تطبيقها عمليا في ليبيا صعب المنال وعالي التكلفة. يعتقد النظام التركي، ومعه العديد من المراقبين الدوليين، أن مصر لن تجرأ على مواجهة تركيا في ليبيا. هذا اعتقاد خاطئ.

مصر ترى التوغل التركي في ليبيا خطرا على أمنها القومي، ولهذا فلن تترك ليبيا لقمة سائغة في يد الأتراك. القاهرة تعلم أن تركيا تملك قدرات عسكرية قوية، ولكن القيادة المصرية ترى أن مسرح العمليات الليبي، بجغرافيته الصحراوية، وقلة كثافة سكانه (في شرق ليبيا)، مناسب جدا لقدرات مصر العسكرية، حيث تستطيع أن تكبد الدب التركي خسائر فادحة ـ إن اضطرت للاصطدام معه.

فعلى عكس قادة الجيش التركي المؤدلجين بعقيدة الوطن الأزرق، الجيش المصري لا يؤمن بعقائد زرقاء أو خضراء أو سوداء، ولكنه تعلم من أخطاء حروبه السابقة بحلوها ومرها.

قد تكون القاهرة أخطأت في الاعتماد على الجنرال حفتر وحملته المتهورة داخل الغرب الليبي، ذو الكثافة السكانية العالية، ولكن مصر الآن أعادت رسم استراتيجيتها لمواجهة التدخل التركي. خط سرت ـ الجفرة، ليس فقط خطا أحمر لمصر، ولكنه مصيدة لتركيا لجرها إلى حرب استنزاف وصراع طويل الأمد.

مصر ترى التوغل التركي في ليبيا خطرا على أمنها القومي، ولهذا فلن تترك ليبيا لقمة سائغة في يد الأتراك

المواجهة مع مصر ستجبر تركيا على جلب المزيد من القوات والعتاد وأنظمة دفاعية أكثر تطورا، مما سيجعل فاتورة حربها في ليبيا أغلى من قائمة الغنائم الاقتصادية والسياسية. في النهاية، ستجد تركيا نفسها مثقلة بإرث ثقيل من ميليشيات متناحرة وجماعات وإرهابية وفوضى صعب السيطرة عليها من على بعد آلاف الأميال.

المغامرة التركية في ليبيا تشبه إلى حد كبير مغامرة مصر في اليمن في ستينيات القرن الماضي. في حرب اليمن، قرر الرئيس المصري جمال عبدالناصر أن يدفع بآلاف من الجنود المصريين إلى بلد تبعد عن مصر آلاف الأميال.

بالطبع هناك اختلافات بين التجربتين ولكن أوجه التشابه بين حرب مصر في اليمن وحرب تركيا في ليبيا كثيرة: حروب معقدة، أحلام أيديولوجية صعبة المنال، وقادة عسكريين لا يتجرؤون على معارضة قائدهم، بل يجهدون على إرضائهم.

في اليمن، رفع ناصر شعار "وطني حبيبي الوطن العربي"، وانتهى بخسارة الاثنين الوطن والعرب. وفي ليبيا، يرفع إردوغان شعار "وطني حبيبي الوطن الأزرق"، ولكنه لن يكسب إلا عواصف ترابية صفراء، قد تقضي على أحلام العثمانيين الجدد.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.