Muslim women walk around historic monument Charminar area in the old city of Hyderabad on August 5, 2020. (Photo by NOAH SEELAM…
البلدان التي تضم أكبر عدد من المسلمين هي، بالترتيب: إندونيسيا، باكستان، الهند وبنغلاديش

"فرنسا العلمانية اللائكية تمنع الحجاب والنقاب".

"الغرب الكافر يحارب الإسلام والمسلمين".

"من واجبنا نشر الإسلام لأنه آخر الديانات"

"...".

تعليقات كهذه، ستجدها بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي. في أي نقاش يطرح حول العلمانية، الحريات الفردية، فصل الدين عن الدولة والسياسة، التاريخ الإسلامي، وغيرها من المواضيع القريبة أو البعيدة من الدين، ستجد من يخرج هذه "الحجج" للنقاش.

وهي بالتأكيد حجج مقنعة جدا، خصوصا حين نتأمل ما يلي:

هل يمكننا أن نقارن عدد المساجد التي بنيت في فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة الأميركية وهولندا وكندا، خلال العشرين سنة الأخيرة، بعدد الكنائس التي بنيت في المغرب وتونس ومصر والكويت خلال نفس الفترة؟

متى سنعي بأن العلمانية وحرية المعتقد، اللتين نخافهما في بلداننا، هما العنصران اللذان يسمحان لملايين المسلمين عبر العالم بممارسة تدينهما بحرية

هل يمكننا أن نقارن عدد الأشخاص الذين تحولوا للإسلام وأعلنوا إسلامهم وعاشوه بأمان في مختلف هذه البلدان وفي بلدان أخرى غيرها، بعدد الأشخاص الذين تحولوا من الإسلام إلى المسيحية أو الإلحاد، وعاشوا اختيارهم العقدي الجديد بكل أمان؟
هل يمكننا أن نتحدث قليلا عن الفتيات اللواتي يخلعن الحجاب في المغرب ومصر وسوريا، وكيف يتم التعامل معهن في أوساطهن؟

هل يمكننا أن نقارن عدد الأشخاص المسلمين المقيمين في بلدان الغرب، والذين اندمجوا في حياتهم المهنية والشخصية والسياسية أحيانا، بشكل كبير؛ مع عدد المهاجرين الأجانب وغير المسلمين في دول الخليج أو في الدول المغاربية والمشرقية، والذين يترشحون للانتخابات ويتزوجون ويشتغلون ويشاركون في مختلف الأحداث الاجتماعية مع أهل البلد، بشكل طبيعي؟

في الحقيقة، السؤال الذي نحتاج لطرحه على أنفسنا هو التالي: من أين ينبع هذا الانطباع لدى عدد كبير من مسلمي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بأنهم ضحية مؤامرة عظيمة تحاول القضاء عليهم؟ هذا علما أنهم لا يمثلون إلا 20 في المئة من مسلمي العالم، حيث أن البلدان التي تضم أكبر عدد من المسلمين هي، بالترتيب: إندونيسيا، باكستان، الهند وبنغلاديش.

لماذا يعيش الكثير من مسلمي منطقتنا بإحساس متعاظم بأن الكون يتآمر ضدهم؟ ما الذي يجعل الولايات المتحدث والاتحاد الأوروبي لا يتآمرون ضد سنغافورة ونيوزيلاندا وأستراليا، وهي بلدان متقدمة، كما يتآمرون ضد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومعظم هذه البلدان تعاني التخلف والأمية والفقر والديكتاتورية السياسية؟

لنتساءل أيضا كيف تكون مسلما متدينا مقتنعا بعظمة دينك، وتخاف عليه من مقال أو برنامج حواري أو تغريدة على مواقع التواصل، لتقيم الدنيا ولا تقعدها احتجاجا ضد "مؤمرات العلمانيين والملحدين ضد الإسلام والمسلمين"؟

منطقيا، إن كان إيمانك قويا بدينك وبصحته، وبأن الإسلام قاوم كل الأشرار على مدار 15 قرنا، فما الذي يجعلك تخاف من مقال أو فيديو أو منشور على مواقع التواصل؟  هل هو خوف نابع من إحساس لا شعوري بالضعف وبعدم الثقة؟

يوما ما... علينا أن نستفيق من وهم مركزيتنا في الكون؛ وأن نستفيق من وهم المؤامرة التي تحاك ضدنا؛ وأن نقبل للآخرين ما نطالب به لأنفسنا

متى سنعي بأن العلمانية وحرية المعتقد، اللتين نخافهما في بلداننا، هما العنصران اللذان يسمحان لملايين المسلمين عبر العالم بممارسة تدينهما بحرية، ويسمح لبرتغاليين وأميركيين وبلجيكيين باعتناق الإسلام وإشهاره دينهم الجديد بحرية؟ متى سنقتنع أن العلمانية وحرية المعتقد هما ما يسمح ببناء مساجد جديدة في مختلف المدن الأوروبية والأميركية؟

لنأخذ مثال المغرب مرة أخرى. البلد تحول، مع مرور السنوات، من بلد عبور لعدد من المهاجرين القادمين من دول أفريقية مختلفة باتجاه أوروبا، لبلد هجرة واستقبال. هؤلاء المهاجرون ليسوا جميعهم مسلمين. شئنا أم أبينا، يوما ما، يجب أن نعترف بأن عدد الكنائس الموجودة في المغرب لم يعد كافيا لهم. هل سنسمح ببناء كنائس جديدة في الدار البيضاء ومراكش وطنجة وأصيلة، كما نفرح لبناء مساجد جديدة في بروكسيل وباريس ونيويورك؟

يوما ما... علينا أن نستفيق من وهم مركزيتنا في الكون؛ وأن نستفيق من وهم المؤامرة التي تحاك ضدنا؛ وأن نقبل للآخرين ما نطالب به لأنفسنا.

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.