Tel Aviv City Hall is lit up with the flags of the United Arab Emirates and Israel as the countries announced they would be…
إضاءة مبنى بلدية تل أبيب بالعلم الإماراتي

لياً لذراعي خلف ظهري، سأكتب حول الصداقة الجديدة التي تشكلت على سطح عالمنا العربي دون عواطف، دون هياج أو غضب. سأضع جانبا كل ما تغذت به روحي وقلبي وعقلي على مدى سنوات حول الأرض المفقودة في لحظة من الزمن والوعود المعقودة في ظلمات الليل، وسأحاول أن أكتب عما تشكله الصداقة الإماراتية الإسرائيلية اليوم من معنى وتبعات، علني أفهم، علني أستوعب كيف تدور الدوائر بهذه السرعة، كيف تنقلب الموازين وكيف تتغير الحالات في عالم السياسة بهذه الصورة من النقيض إلى النقيض.

يفترض أنه لا مكان في عالم المدنية المعاصر للدول الدينية، أي الكينونات التي تبنى على أساس استحقاق ديني، لذا الدخول في النقاش الاستحقاقي اليهودي أو الإسلامي للأرض يفترض أن لا معنى أو موقع له في الحوار المعاصر اليوم. هناك حقائق ووقائع تاريخية يمكن الاستناد عليها، من وعد بلفور في 1917، مرورا بحرب 1948 استمرارا لكل الأحداث الواقعة على الأراضي الفلسطينية من بناء مستوطنات ومحاولات مستمرة للسيطرة على الأراضي، وصولا إلى ما نراه اليوم من امتداد السيطرة الإسرائيلية على معظم الأراضي الفلسطينية وترك تلك التي ليست تحت سيطرتها، مثل غزة، في حالة عزل ومعاناة وتهديد مستمر. حرية الوصول إلى المسجد الأقصى ليست مكفولة للجميع، جدار يفصل المدن الفلسطينية، والاعتقال الإداري للفلسطينيين لا يزال قائما...

المصلحة السياسية والعسكرية تقول بأخذ طرف الأقوى، بالوقوف في المعسكر المفيد، لكن هل الوضع العربي اليوم بصداقاته الإسرائيلية سيكون أقوى وأكثر فائدة؟

هل خطوة الصداقة التي قفزتها الإمارات هي في صالح المنطقة العربية عسكريا وسياسيا وعلاقاتيا؟

لكن كل ذلك غير مهم في عالم السياسة، الدول تتغير والحدود تتغير، والبقاء، حرفيا، للأقوى. لا قيمة للتاريخ فعليا، فكلما عدت خطوة للوراء وجدت خطوة أخرى تسبقها، هذه الخطوات تجعل تحديد استحقاق الأرض مستحيلا. هناك دول مدنية قامت، وبشر استقروا منذ مئات ومئات السنوات، وبيوت استقامت وأجيال توارثت، وتغيير كل ذلك لحظيا وباتفاقات سياسية لا يمكن وقوعه سوى باحتلالات عسكرية.

الصداقات التي تشكلت وستتشكل بين إسرائيل ومحيطاتها العربية هو قبول بمنطق الاحتلال ولي الذراع، أو بمعنى أصح استسلام لمفهوم القوي الذي يأكل الضعيف. المصلحة السياسية والعسكرية تقول بأخذ طرف الأقوى، بالوقوف في المعسكر المفيد، لكن هل الوضع العربي اليوم بصداقاته الإسرائيلية سيكون أقوى وأكثر فائدة؟

في مقابلة للدكتور شفيق الغبرا، دكتور العلوم السياسية في جامعة الكويت، يذكر نقطة مهمة جدا في نهاية المقابلة ألا وهي أن الصداقات مع إسرائيل المقرونة بالمطالبة بنزع سلاح "حزب الله" لن تفعل سوى أن تقوي الموقف الإيراني التركي في المنطقة وتعزز نظرياتهم التآمرية. يشرح الدكتور في منتصف مقابلته إن "إسرائيل خطتها في المنطقة العربية أن تستوطن أكثر، أن تسيطر أكثر، أن تكون هي الدولة المفصلية في تقرير الأمور. يبدو لي أن لهذا الاتفاق شق عسكري أيضا، شق باتجاه إيران وربما باتجاه تركيا، هناك قاعدة تركية في قطر هناك عسكرة لهذه المنطقة. مع كل أسف نحن سندخل في نفق أصعب وليس في وضع متفائل أفضل. نأتي للفلسطينيين، حتما الفلسطينيين سيشعرون بخيبة أمل كبيرة. أنا سمعت الدكتور صائب عريقات في حديثه أمس وهو يقول إن هناك قطيعة مع الإمارات، أن الإمارات قاطعت السلطة الفلسطينية منذ 2014، لم أكن أعلم ذلك لكن هذا دليل على السياق، أنت تقاطع "حماس" وتقاطع "فتح" وتقاطع السلطة الفلسطينية وتقاطع إيران وتقاطع تركيا وتقاطع قطر وبحرب اليمن وبغيرها إذن هذا في النهاية يعني سيصب في المنطق الإسرائيلي، سيصب في الاتجاه الإسرائيلي تماما، أنا في رأيي في تطابق".

المصلحة السياسية والعسكرية تقول بأخذ طرف الأقوى، بالوقوف في المعسكر المفيد، لكن هل الوضع العربي اليوم بصداقاته الإسرائيلية سيكون أقوى وأكثر فائدة؟

إذن منطقيا، الصداقة الإماراتية الإسرائيلية لن تتسبب سوى في عدد من المقاطعات التي ستؤثر سلبا على المنطقة بأكملها، كما أنها ستوتر العلاقات بإيران وتركيا وهما دولتين ثقيلتين في المنطقة سياسيا وعسكريا. هذا بخلاف أن الواضح هو أن "الدولة الإسرائيلية" لا تنوي الوقوف عند الحدود الفلسطينية الحالية، فمنذ عشرات السنوات وهي تمد أذرعها، أحيانا بالاتجاه اللبناني، وأحيانا بالاتجاه السوري، وأحايين أخرى بالاتجاه الأردني، ولن يتغير هذا الوضع سوى للأصعب والأسوأ.

إذن بعيدا عن إنسانية ومبدئية القضية، وبعيدا عن معاناة الشعب الفلسطيني وشتاته لعشرات السنوات، وبعيدا عن الاستيطان الداخلي والتعذيب والسجن والعنف العسكري الذي ما عاد خفيا على العالم كله، هل خطوة الصداقة التي قفزتها الإمارات هي في صالح المنطقة العربية عسكريا وسياسيا وعلاقاتيا؟ ماذا سنربح من هذه العلاقة وماذا سنخسر إقليميا؟ هذا هو السؤال الذي لا بد أن يسأله من يريد أن يفكر منطقيا لا عاطفيا أو إنسانيا أو حقوقيا، ما هي أرباحنا؟ ما هي خسائرنا؟

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.