نشرت وزارة الدفاع التركية مقطع فيديو خاص لسفينة "الريس عروج" التي تواصل أعمال البحث والتنقيب شرق المتوسط. ويظهر فيه جانب من المكالمات اللاسلكية بين طاقم السفينة والفرقاطة التركية TCG Gediz التي تقوم بمرافقتها.
اختيار تركيا لاسم "الريس عروج" يعكس تماما الأهداف التركية الخفية في المتوسط، ويستحق وصفه بـ "اسم على مسمى". وتاريخيا، "الريس عروج"، الشهير بعروج بربروس، كان قبطانا بحريا من أصول تركية، اشتهر بقرصنة السفن الأوروبية والاستيلاء على بضائعها. حاول عروج التقرب من السلطان قانصوه الغوري في مصر، ولكنه وجد ضالته بعد ذلك، في التقرب من الدولة العثمانية، وخصوصا من السلطان سليم الأول وساعده في السيطرة على شرق المتوسط وشمال أفريقيا.
أحلام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لا تختلف كثيرا عن أحلام السلطان العثماني سليم الأول، كما كتب الكاتب آلان ميخائيل في مجلة التايم (Time).
قد يختلف المراقبون حول مدى هوس الرئيس التركي بالتاريخ العثماني، ولكن ما لا يجب الخلاف عليه، هو أن أهداف الرئيس التركي أكبر من مجرد التنقيب على الغاز وترسيم الحدود البحرية مع اليونان.
ترى تركيا أن هذه الاتفاقية رأس حربة يجمع حولها كل مناصريها من الإسلاميين، ليس في ليبيا فقط، بل في تونس والجزائر أيضا
في الظاهر، يتمحور الصراع بين تركيا واليونان، على غاز المتوسط والحدود البحرية بين الدولتين وخصوصا، جزيرة "Kastellorizo" اليونانية والتي يطلق عليها الأتراك "ميس أو Meis" . وتدعى تركيا أنها تابعة "تاريخيا ومنطقيا" لها وأنه لا يمكن أن يكون لديها جرفا قاريا كاملا يتبع لليونان؛ ولكن لتركيا هدفين أوسع وأكبر، يرتبطان كلاهما باليونان بشكل أو بآخر.
الهدف الأول، هو التوسع في اتجاه الشمال الأفريقي، حيث تجاهلت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، التي أبرمتها تركيا مع حكومة الوفاق الليبية في أواخر 2019، وجود جزيرة كريت اليونانية بين الساحلين التركي والليبي. وعلى الرغم من رفض الاتحاد الأوروبي للاتفاقية، إلا أن تركيا ما زالت تعتبرها "خطا أحمر".
حيث ترى تركيا أن هذه الاتفاقية رأس حربة يجمع حولها كل مناصريها من الإسلاميين، ليس في ليبيا فقط، بل في تونس والجزائر أيضا. ولهذا فهي ترى في اليونان عائقا أمام تحقيق أهدافها التوسعية في الشمال الأفريقي.
الهدف الثاني والأهم، والذي لا ينتبه إليه الكثيرون هو إضعاف كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وتأجيج الانقسام بين أعضائهما. فالنظام التركي يتعامل مع الدول الغربية بطريقة "فرق تسد"، ويعتقد أن تعميق الخلافات بين الحمائم والصقور داخل كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، هو السبيل الوحيد لتقوية تركيا وبزوغ نجمها كقوة إقليمية.
فالحمائم في الأروقة الغربية يفضلون مفردات كـ "خفض التصعيد" و "الدعوة للحوار" في "مفاوضات تكتيكية". أما الصقور كالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يرون أن تركيا "تحترم الأفعال لا الأقوال" حيث تحدث الرئيس الفرنسي عن وضع خطوط حمراء أمام تركيا في شرق المتوسط.
وكلما تصاعد الخلافات بين الطرفين، كلما زادت فرصة تركيا على خلق واقع جديد على الأرض بدون دفع ثمن باهظ في المقابل. مثلا لا تهدف تركيا من الموافقة على الدخول في مفاوضات مع اليونان ـ سواء عن طريق حلف الناتو أو عن طريق الاتحاد الأوروبي، لحل الخلاف، ولكن لتقديم حجة قوية لحمائم الدول الغربية لرفض تطبيق أي عقوبات على تركيا، وبذلك تنسف جهود اليونان في الحصول على دعم غربي كامل لها.
وعلى الرغم من لغة المهادنة التي تحاول تركيا أن تصورها، إلا أن الرئيس التركي لم يستطع إخفاء عدوانيته بعد أن فوجئ بتغيّر بعض التوازنات داخل الأروقة الغربية، ومن أبرزها:
أولا: التحول "الخجول" في الموقف الأميركي تجاهه النزاع التركي ـ اليوناني، فالبوارج الأميركية وصلت إلى الجزيرة اليونانية كريت، كما رفعت واشنطن، جزئيا، حظر السلاح عن حليفة اليونان، قبرص.
ثانيا، ظهور لاعبين آخرين من خارج المعسكر الغربي يدعمون اليونان، وبالأخص دولتي الإمارات ومصر. فقد أرسلت دولة الإمارات طائرات أف ـ 16 إلى اليونان لإجراء مناورات عسكرية مشتركة.
الرئيس التركي يسعى جاهدا ليس فقط للتوسع في المتوسط، بل أيضا إلى إضعاف المؤسسات الغربية، سواء الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو
أما مصر، فقد وقعت على اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع اليونان، والتي أسهمت في تدعيم الموقف القانوني لليونان في خلافها مع تركيا. كما أوضح الكاتب بارين كايا أوغلو في مقالته الأخيرة، لجهة أن "القانون الدولي يمنح اليونان يدا أقوى، ولا تحتاج إلى حل وسط مقارنة بتركيا" وهذا ما دفع الرئيس التركي لرفع نبرة تهديداته، وادعى بأن تركيا تملك القوة "لتمزيق خرائط ووثائق اتفاقيات مجحفة".
يعتقد كثيرون في الأروقة الغربية بأن التفاوض يمكن أن يحل المشكلة بين تركيا واليونان. ولكنهم لا يدركون أن الانقسام الغربي، سواء داخل الاتحاد الأوروبي أو داخل الناتو هو جزء من المشكلة. فالرئيس التركي يسعى جاهدا ليس فقط للتوسع في المتوسط، بل أيضا إلى إضعاف المؤسسات الغربية، سواء الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو وزرع الانقسامات بين أعضائهما.
ولهذا ستظل سفينة "الريس عروج" تسرح وتمرح في المتوسط حتى تفهم الدول الغربية أن وحدتها في خطر، وأن النظام التركي الحالي لن يرضى بخفض التصعيد ولا بترسيم حدود مع عالم غربي منقسم على نفسه.
فالرئيس التركي لا يقدر الضعفاء ولا يثمن المهادنين.