FILE - In this photo taken Monday, Aug. 10, 2020, Turkey's research vessel, Oruc Reis, center, is surrounded by Turkish navy…
صورة وزعتها وزارة الدفاع التركية تظهر سفينة الاستكشاف "الريس عروج" ترافقها سفنا عسكرية تركية

نشرت وزارة الدفاع التركية مقطع فيديو خاص لسفينة "الريس عروج" التي تواصل أعمال البحث والتنقيب شرق المتوسط. ويظهر فيه جانب من المكالمات اللاسلكية بين طاقم السفينة والفرقاطة التركية TCG Gediz التي تقوم بمرافقتها.

اختيار تركيا لاسم "الريس عروج" يعكس تماما الأهداف التركية الخفية في المتوسط، ويستحق وصفه بـ "اسم على مسمى". وتاريخيا، "الريس عروج"، الشهير بعروج بربروس، كان قبطانا بحريا من أصول تركية، اشتهر بقرصنة السفن الأوروبية والاستيلاء على بضائعها. حاول عروج التقرب من السلطان قانصوه الغوري في مصر، ولكنه وجد ضالته بعد ذلك، في التقرب من الدولة العثمانية، وخصوصا من السلطان سليم الأول وساعده في السيطرة على شرق المتوسط وشمال أفريقيا.

أحلام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لا تختلف كثيرا عن أحلام السلطان العثماني سليم الأول، كما كتب الكاتب آلان ميخائيل في مجلة التايم (Time).

قد يختلف المراقبون حول مدى هوس الرئيس التركي بالتاريخ العثماني، ولكن ما لا يجب الخلاف عليه، هو أن أهداف الرئيس التركي أكبر من مجرد التنقيب على الغاز وترسيم الحدود البحرية مع اليونان.

ترى تركيا أن هذه الاتفاقية رأس حربة يجمع حولها كل مناصريها من الإسلاميين، ليس في ليبيا فقط، بل في تونس والجزائر أيضا

في الظاهر، يتمحور الصراع بين تركيا واليونان، على غاز المتوسط والحدود البحرية بين الدولتين وخصوصا، جزيرة "Kastellorizo" اليونانية والتي يطلق عليها الأتراك "ميس أو Meis" . وتدعى تركيا أنها تابعة "تاريخيا ومنطقيا" لها وأنه لا يمكن أن يكون لديها جرفا قاريا كاملا يتبع لليونان؛ ولكن لتركيا هدفين أوسع وأكبر، يرتبطان كلاهما باليونان بشكل أو بآخر.

الهدف الأول، هو التوسع في اتجاه الشمال الأفريقي، حيث تجاهلت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، التي أبرمتها تركيا مع حكومة الوفاق الليبية في أواخر 2019، وجود جزيرة كريت اليونانية بين الساحلين التركي والليبي. وعلى الرغم من رفض الاتحاد الأوروبي للاتفاقية، إلا أن تركيا ما زالت تعتبرها "خطا أحمر".

حيث ترى تركيا أن هذه الاتفاقية رأس حربة يجمع حولها كل مناصريها من الإسلاميين، ليس في ليبيا فقط، بل في تونس والجزائر أيضا. ولهذا فهي ترى في اليونان عائقا أمام تحقيق أهدافها التوسعية في الشمال الأفريقي.

الهدف الثاني والأهم، والذي لا ينتبه إليه الكثيرون هو إضعاف كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وتأجيج الانقسام بين أعضائهما. فالنظام التركي يتعامل مع الدول الغربية بطريقة "فرق تسد"، ويعتقد أن تعميق الخلافات بين الحمائم والصقور داخل كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، هو السبيل الوحيد لتقوية تركيا وبزوغ نجمها كقوة إقليمية.

فالحمائم في الأروقة الغربية يفضلون مفردات كـ "خفض التصعيد" و "الدعوة للحوار" في "مفاوضات تكتيكية". أما الصقور كالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يرون أن تركيا "تحترم الأفعال لا الأقوال" حيث تحدث الرئيس الفرنسي عن وضع خطوط حمراء أمام تركيا في شرق المتوسط.

وكلما تصاعد الخلافات بين الطرفين، كلما زادت فرصة تركيا على خلق واقع جديد على الأرض بدون دفع ثمن باهظ في المقابل. مثلا لا تهدف تركيا من الموافقة على الدخول في مفاوضات مع اليونان ـ سواء عن طريق حلف الناتو أو عن طريق الاتحاد الأوروبي، لحل الخلاف، ولكن لتقديم حجة قوية لحمائم الدول الغربية لرفض تطبيق أي عقوبات على تركيا، وبذلك تنسف جهود اليونان في الحصول على دعم غربي كامل لها.

وعلى الرغم من لغة المهادنة التي تحاول تركيا أن تصورها، إلا أن الرئيس التركي لم يستطع إخفاء عدوانيته بعد أن فوجئ بتغيّر بعض التوازنات داخل الأروقة الغربية، ومن أبرزها:

أولا: التحول "الخجول" في الموقف الأميركي تجاهه النزاع التركي ـ اليوناني، فالبوارج الأميركية وصلت إلى الجزيرة اليونانية كريت، كما رفعت واشنطن، جزئيا، حظر السلاح عن حليفة اليونان، قبرص.

ثانيا، ظهور لاعبين آخرين من خارج المعسكر الغربي يدعمون اليونان، وبالأخص دولتي الإمارات ومصر. فقد أرسلت دولة الإمارات طائرات أف ـ 16 إلى اليونان لإجراء مناورات عسكرية مشتركة.

الرئيس التركي يسعى جاهدا ليس فقط للتوسع في المتوسط، بل أيضا إلى إضعاف المؤسسات الغربية، سواء الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو

أما مصر، فقد وقعت على اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع اليونان، والتي أسهمت في تدعيم الموقف القانوني لليونان في خلافها مع تركيا. كما أوضح الكاتب بارين كايا أوغلو في مقالته الأخيرة، لجهة أن "القانون الدولي يمنح اليونان يدا أقوى، ولا تحتاج إلى حل وسط مقارنة بتركيا" وهذا ما دفع الرئيس التركي لرفع نبرة تهديداته، وادعى بأن تركيا تملك القوة "لتمزيق خرائط ووثائق اتفاقيات مجحفة".

يعتقد كثيرون في الأروقة الغربية بأن التفاوض يمكن أن يحل المشكلة بين تركيا واليونان. ولكنهم لا يدركون أن الانقسام الغربي، سواء داخل الاتحاد الأوروبي أو داخل الناتو هو جزء من المشكلة. فالرئيس التركي يسعى جاهدا ليس فقط للتوسع في المتوسط، بل أيضا إلى إضعاف المؤسسات الغربية، سواء الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو وزرع الانقسامات بين أعضائهما.

ولهذا ستظل سفينة "الريس عروج" تسرح وتمرح في المتوسط حتى تفهم الدول الغربية أن وحدتها في خطر، وأن النظام التركي الحالي لن يرضى بخفض التصعيد ولا بترسيم حدود مع عالم غربي منقسم على نفسه.

فالرئيس التركي لا يقدر الضعفاء ولا يثمن المهادنين.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.