Activists take part in a demonstration against sexual harassment, rape and domestic violence in the Lebanese capital Beirut on…
تظاهرة في بيروت ضد التحرش

تتوارد هذه الفترة أخبار عن مقتل نساء من مختلف أنحاء العالم العربي، نساء يواريهن التآمر العاداتي والتقاليدي، يختم قبورهن الصمت الذي "يستر الفضيحة"، وتضيع شواهد مدافنهن حماية لمرتكبي الجرائم، "الثائرين للشرف، المنقذين لاسم العائلة وسمعتها".

كل يوم اسم جديد، قصة جديدة، وجسد منتهك جديد، جسد تركته الحياة حتى قبل أن تتوقف أعضاؤه، حين غلف بألف غلاف من العيب والحرام، وحين ختمت كل حواسه بأختام السمعة والشرف وحين تشمعت بالشمع الأحمر كل رغباته، شَمع جمَّد الرغبة الأنثوية في قالب الخلاعة والفجور.

لا يمكن "لذكر" أن يفهم هذا المعنى، معنى أن تحيا في سجن بيولوجي متنقل، معنى أن يثقلك جسدك، يؤخرك، يبطئ مسيرتك وزمنك وفرصك وحتى قدرتك على استنشاق هواء حر نظيف، جسد ثقيل ثقل الجثة الفاقدة للحياة، تحمله وكأنك تجر عربة ضخمة، مطلوب منك أن تحول لحمها وشحمها وعروقها ودماءها إلى معدن صلد لا يشعر ولا يرغب. 

لا يمكن "لذكر" أن يفهم هذا المعنى، معنى أن تحيا بجمجمة تسكنها نحلة، نحلة تطن طنينا مرتفعا مستمرا يخبرك شيء عن نفسك، يطالبك بشيء من نفسك، يسألك ألف سؤال في اللحظة، يحاسبك ألف حساب في اللحظة، يعاتبك ألف عتاب في اللحظة، يسائل مفاهيمك وإيمانياتك التي ولدت لتجد نفسك أسيرا لها، ثم يؤنبك على هذه المساءلة، يرعبك بتبعاتها، يذكرك بخروجك المارق عن العادات والتقاليد ولربما حتى عن الدين لمجرد السماح بها. 

لا يمكن "لذكر" أن يفهم هذا المعنى، معنى أن تحيا في سجن بيولوجي متنقل، معنى أن يثقلك جسدك، يؤخرك، يبطئ مسيرتك وزمنك وفرصك وحتى قدرتك على استنشاق هواء حر نظيف

تضيع أنت مع هذا الطنين المستمر المزعج الذي تكاد تشعره يخرق روحك، يقفز من بؤبؤ عينيك، يخترق طبلة أذنك، ينزلق حارقا على لسانك، يود الخروج كلمات، بل صرخات، خارج جسدك، يود أن يهتف في الناس، فيك أنت بحد ذاتك، يود أن يجد إجابة على كل الأسئلة التي يهددونك بحرمتها: لماذا أنا كائن أقل؟ ما ذنبي أن ولدت لجنس لم أختره ليحيدني، يعزلني، يقهرني، يضع كل شرف العائلة وسمعتها وثقل اسمها على أكتافي؟ لماذا صُنعت أنا بجسد يستوجب عليه الرضوخ والانصياع وفي ذات الوقت مُهرت بعقل يستصرخ الحرية والفهم الحقيقي لوجوده وقيمته؟ لماذا خُلقت أنا بهذا الطنين في جمجمتي لو كان مقدرا لجسدي أن يكون صامتا صمت القبور؟ لماذا تشكلت أنا بتطلعات وآمال وأحلام، برغبة في الحرية، بتحرر للرغبة، بالقدرة على الاختيار، على إتيان الآثام كما الحسنات، لو كان مقدرا لي، لو كان مطلوب مني أن أكون ملاكا ولا شيئا غير الملاك؟

الجميع يلاحق هذه النحلة الطنانة في رأسك، كل شخص في أسرتك، كل فرد في مجتمعك، كل رجل دين في محيطك، كل مشرع سياسي في برلمانك، كل صديق وعدو وقريب وبعيد بمن فيهم أنت بحد ذاتك، كلهم، كلنا، نلاحق هذه النحلة الطنانة، نرميها بالأحجار، نقذفها بالأحذية، نحاول ضربها بالجرائد الملفوفة أو دهسها بالأقدام المكشوفة، إلا أن هذه النحلة لا تموت، لا تتوقف عن الحركة، لا تصمت عن الطنين. قد تهدأ هي يوم أو بعض يوم، إلا أنها لا تفتأ تعود للطيران، للدوران، للطنين المستمر المرتفع المريب. 

فجأة تكتشف الواقع: ستعيش كل حياتك مع هذه النحلة الطنانة، ستعيش مع ضوضائها وإلحاحها وأسئلتها وعتابها وترهيبها وترغيبها، ستنام بها وتصحو بها، ستضغطك بطلباتها ورغباتها، ستؤنب ضعفك وستحتقر رضوخك، لتعود فتخزيك بذكرى واجبك تجاه أهلك ومجتمعك، ستطن وتطن وستدور معها أنت وتدور، فلا هي تتركك لحريتك "الآثمة" ولا هي تعتقك من أفكارك وثوراتك، لا مفر منها إلا ونحن، النساء، جثة هامدة.

نحن نستمر في الحياة، وهن يستمررن في غياهب الفقد، فقط لأنهن نساء لم يعرفن كيف يقتلن النحلة أو يتحايلن على وجودها

فتيات في عمر الزهور، نساء في عمر الأشجار الباسقة وأخريات في نضوج النخلات المعمرة، كلهن لهن قصص، منهن من فقدت طعم الحياة وهي تحياها، منهن من ماتت روحها في جسد حي، ومنهن من تحررت روحها أخيرا من جسد ميت. إلا أن قصص المتحررات بالموت تحديدا كلها قصص هزائم، قصص فقد، وهل أسوأ من خسارة الموت؟ وهل أبشع من فقد الحياة؟ لربما هن يمهدن الطريق للقادمات من بنات جنسنا، إلا أنهن يمهدن هذا الطريق بأجسادهن، بحيواتهن. لربما هن "يلضمن" القصص بعضها ببعض لتشكل بحرا تسبح فيه المغامرات، لتصنع جسرا تعبر فوقه العابرات، إلا أنهن يلضمن هذه القصص بدمائهن وقطع من أجسادهن. ربما هن يصنعن عمل عظيم للقادمات، لكن ما معنى وقيمة هذا العمل لأجسادهن المتوارية أسفل التراب، لأرواحهن المختفية في العدم، لحيواتهن الواحدة التي لن تعود ولن يعوضها شيء؟

يمكن أن نقول كلاما كثيرا حول جمال التضحية وعظمة التمهيد للقادم من الفتيات والنساء، لكن الحقيقة المُرة "الطنانة" هي أن هذه النساء المفقودات قد خرجن من الحياة ولن يعدن، قد فقدن أعظم فقد، وحرمن الفرصة الوحيدة الفريدة للوجود الغرائبي على هذا الكوكب العجيب، فرصة من بين بلايين الفرص أعطيت لهن في لحظة زمن وسلبت منهن في غمضة عين. 

نحن نستمر في الحياة، وهن يستمررن في غياهب الفقد، فقط لأنهن نساء لم يعرفن كيف يقتلن النحلة أو يتحايلن على وجودها. لماذا لم تمثلن كما نفعل جميعا؟ لماذا لم تبقين في الظلام؟ لماذا اخترتن الحياة في الشمس؟ ألم تعلمن أنكن أهداف واضحة في وضح النهار؟ أصغيتن للنحلة وطنينها أكثر مما يجب، وهذا هو الثمن. ارقدن بسلام..

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.