يتفاوت مستوى التدين في كل بلد على حدة
يتفاوت مستوى التدين في كل بلد على حدة | Source: Courtesy Image

"كم أشتاق إليك يا أبي، اللعنة على تدين حرمني من عاطفتك"، هكذا تختم جيلان تركماني مقالها المعنون "عن الرجل الذي كان أبي قبل أن يرتاد المساجد" المنشور على موقع  "رصيف 22" والذي لربما هو الموقع الأول من نوعه في عالمنا العربي الذي يتناول مواضيع جدلية بشفافية تامة. تحكي تركماني عن تجربتها مع والدها الذي تحول بعد إصابة ابنه بشلل نصفي إلى تدين يجد فيه شيئا من العزاء والأمل، تدين صاغه له أئمة المساجد التي بدأ يرتادها وحوله من رجل لطيف المعشر محب لبناته، لرجل"متدين غليظ القلب والحضور"، من رجل كانت تركماني تنام في حضنه "في ليلة كل امتحان جامعي" إلى آخر يصر على وضع الحجاب على رأس ابنته قبل نقلها للمستشفى وهي في غيبوبة جلطة كادت تودي بحياتها.

تحكي تركماني عن حالة التغيير المفاجأة والقاسية هذه والتي تسبب بها أئمة مساجد زرعوا في نفس والدها فكرة تدين يهدده باشتهاء ابنته، بأن الرجل معرض للإغواء حتى لو كان من جسد فلذة كبده، وأن مسؤولية قمع هذا الإغواء تقع على الصغيرة التي عليها أن تتستر أمام أبيها وأخيها حتى تحميهم من الوقوع في خطيئة اشتهاء جسدها. 

"لا أريد تدينا لعينا يضع أبي وأخي على نفس المستوى من أي ذكر غريب قد يشتهيني" تقول تركماني، "تغيّرت علاقتي مع الرجل الذي كان سابقا أبي، وما عدت أشعر نحوه بعاطفة الأب، ولم أعد أقيم وزنا للأبوة ولا للأخوة. بات كل الذكور في نظري سواسية، وعليّ أن أحمي نفسي منهم! كم مؤلم أن ننحدر إلى هذا المستوى من التفكير، بسبب عقلية شيخ مريض. لماذا عليّ أن أفكر بأن كل الذكور يشتهونني بمَن فيهم أبي وأخي؟" حقيقة الأمر أن هذه الفكرة مسوقة إلى حد بعيد وعميق في الفكر الديني عموما وفي القراءة الإسلامية تحديدا، والتي انتشرت اجتماعيا لتصنع عقدة نفسية رابضة في أعماق كل أنثى عربية، فكرة اشتهاء الذكر للأنثى و"ذئبيته"، حتى بتنا كنساء ننظر بعين الريبة لكل رجل يقترب منا، نغلظ بالحديث ونستعد بأدوات الدفاع عن النفس تجاه كل رجل يرفع عينيه إلينا أو يحاول التواصل معنا.

لقد صنع الخطاب الإسلامي السائد علاقة توتر وريبة وحُرمة بين النساء والرجال، علاقة مهددة بالشهوة والخطيئة، علاقة تحكمها فكرة بائدة أن للأنثى عود كبريت يحترق مرة وأن للذكر، أي ذكر، هدف واحد، وهو إشعال النار في هذا العود الرقيق.  

قبل سنوات أخبرتني ابنتي عن تجربة استغربتها أنا وسألت نفسي مطولاً حول دوري في صنعها. قالت لي ابنتي أنها، إبان وجودها في أمريكا للدراسة، اقترب شاب منها وهي تقف في الكافتيريا وبدأ يحادثها بشكل ودي عام، وأنها أشاحت بوجهها ولم تكن لطيفة معه إلى أن دخلت بعد دقائق زوجته وابنته واللتان عرفهما الشاب على ابنتي ليجلسوا جميعاً متجاذبين أطراف الحديث.

"لا أعرف ما أصابني ماما، لا أدري لم هو مزروع في عقولنا أن أي شاب يقبل للحديث معنا يكون خلف إقباله غرض ورغبة." تفكرت طويلاً في سؤالها وفي دوري في صنع معضلتها، فرغم إدخال كل أبنائي لمدارس أجنبية، ورغم أنهم يحيون حياة مختلفة كثيراً عن محيطهم باتساع حرياتها، يبدو أنني قد فشلت في حمايتهم تماماً من مخاوف مجتمعاتنا المحافظة ومن الارتياب المستتب في أعماق سيكلوجيتها حين يدور الموضوع حول العلاقة بين الجنسين.

تذكرت مباشرة مروري بتجربة مشابهة، إبان فترة استكمال دراستي العليا وكنت كذلك في أمريكا، حيث خرجت مع صديقتي الأمريكية، كلانا متزوجة ولديها أولاد، لقضاء بعض الوقت في مقهى. أقبل علينا شاب محاولاً التلطف بالحديث معي، صددته بفظاظة أثارت استغراب صديقتي. "لماذا كنت قاسية، هل تعرفين الشاب؟" سألتني، "لا أعرفه" قلت لها، وقد أسررت في نفسي أنني أعرف مبتغاه. ولكن، من أين لي أن أعرف؟ ما الذي جعلني أتصور أن أي تلطف من الجنس الآخر ينبغي أن يكون فاسد النوايا، وما الذي يجعل شاباً استلطف فتاة خطيئة تستوجب الغلطة؟ كان بالإمكان تسريحه بلطف دون اللجوء لقسوة التعبير، فأي غلظة علمتنا إياها مجتمعاتنا؟ أي خوف وارتياب وتشكك في النوايا زرعها في قلوبنا التدين المتشدد في محيطنا؟ وهل للكبت العاطفي علاقة بتحويل الرجل إلى ذئب يرى في كل أنثى فريسة له؟ أي هل لعبنا كنساء دور الضحية لأن الرجال يمثلون دور الوحش المفترس طوال الوقت؟

لست هنا أنفي بالتأكيد التحرش والاعتداءات التي تتعرض لها النساء حقيقة وعلى أرض الواقع في العالم كله، فهذا التحرش بتبريراته القميئة هو أحد أهم أسباب ارتياب النساء من الرجال خصوصا في عالمنا الشرق أوسطي القاتم، ولكن أليس هذا التحرش بتبريراته هو كذلك صنيعة قراءات دينية واجتماعية جعلت من الرجل آلة شهوة غير قادرة على ضبط نفسها ومن المرأة الهدف الأضعف الذي يستوجب عليه دوما أن يكون على أهبة الاستعداد وأن يحمي نفسه بنفسه؟  

لكن القصة تختلف تماما حين تستوطن هذه الامراض النفسية داخل البيت، حين تدفع القراءات الدينية المتطرفة الفتاة لأن تنظر لأبيها وأخيها على أنهم جزء من المنظومة الشهوانية التهديدية، أنهم، عوضاً عن أن يكونوا السند والحماية، ما هم سوى أعداء أُخَر، يستوجب على الفتاة حماية نفسها منهم. كيف يمكن الحياة بأمان والأيديولوجية الدينية والاجتماعية في مجتمعاتنا تؤكد لنا أن الخطر يسكن في عقر دارنا ويحتل أجساد وعقول أقرب الأحبة إلينا والمنوط بهم حمايتنا؟

غريبة هي هذه الحياة بكل أيديولوجياتها الخالصة الذكورية، تبريرية لكل خطايا الرجل، اتهامية تجاه كل مصابات المرأة، خطاياه كما نكباتها كلها من ذنبها هي، فإذا كان حتى البيت مصدر خطر وتهديد، فأين تحيا المرأة بأمان؟

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.