تناقلت وسائل الاعلام العالمية قبل أيام خبراً يفيد بإلقاء القبض على والدين عراقيين أثناء محاولتهما بيع طفلهما البالغ من العمر خمس سنوات مقابل سبعة آلاف دولار. وقبلهما بشهرين كادت تاجرتان عراقيتان أن تنجحا في بيع رضيعة لم تتجاوز الخمسة أيام مقابل مبلغ فاق 16 ألف دولار.
لايتوقف سيل مثل هذه الفظائع المتعلقة بجرائم الاتجار بالبشر بشكل شبه يومي، والتي ترد في معظمها وتتنامى في دول تعاني فقراً مدقعاً، أو تعيش شكلاً من أشكال النزاع الحاد الذي يجر معه انفلاتاً أمنياً، وارتفاعاً في نسبتي الجريمة المنظمة والفقر.
أخطر مايتعلق بمثل هذه الجرائم الخاصة بمصائر الأطفال حصراً، لا أن ينتهي بعضها بضياع النسب والبيع بغرض التبني فقط، بل بالشق المتعلق باختطافهم والاتجار بهم لتجنيدهم في أحد المعسكرات التابعة لعصابات مسلحة ومنظمات إرهابية، أو للإتجار بهم فيما يعرف بتجارة الأعضاء.
عند هذه الجريمة الأخيرة، يتوقف الفيلم التونسي( بيك نعيش) 2019، المترجم إلى الإنكليزية تحت عنوان( A Son)، الحائز على عدد من الجوائز العالمية من أبرزها جائزة أفضل فيلم في مهرجان مالمو السينمائي الأخير 2020، لمؤلفه ومخرجه الشاب مهدي البرصاوي في تجربته الروائية الطويلة الأولى.
لايضيء البرصاوي بداية على موضوع تجارة الأعضاء وقضايا الفساد المرتبطة به كهدف أولي تتمحور حوله حبكة فيلمه، بل يفاجىء المشاهد به كحالة صادمة ووليدة، تنبثق من متن ثيمة الفيلم الرئيسة المتعلقة بالخيانة والبنوة والنسب. ينجح نسيج السيناريو المحكم في الربط بينهما بانسيابية ضمن حبكة أكثر احتواءً، ويتمكن عبر فتح قضية تجارة الأعضاء وقسوتها المهولة، من الهيمنة على فضاء الفيلم، والتخفيف من صدمة قصة الخيانة الرئيسة، على مبدأ مصيبة أهون من مصيبة.
يعود المخرج بزمن الفيلم إلى أشهر قليلة أعقبت الثورة التونسية، حيث الحالة الأمنية العامة غير مستقرة، وبخاصة في المناطق الصحراوية المتاخمة للحدود مع ليبيا، التي بدأت تشهد اضطرابات ضد نظام معمر القذافي وترافقت بفلتان أمني شامل، سهل حركة وتسلل عناصر مسلحة أو ارهابية، وأخرى خارجة عن القانون بين حدود البلدين.
وسط هذه الأجواء، يختار المخرج مدينة تطوين الجنوبية لتوافقها مع هدف الفكرة المتعلق بمتاخمتها لحالة الفلتان الأمني العام، وخلق عنصر التشويق والعراقيل القانونية والرسمية المركزية في العاصمة التي ستواجه الحكاية لاحقاً. وهي حكاية تتمحور حول رحلة إلى الجنوب لأسرة سعيدة وميسورة مادياً، تتألف من أب وأم وطفل، منحوا أسماء ذات دلالات رمزية متعمدة،. تتعرض العائلة لقنص يصاب الطفل عزيز فيه إصابة بالغة في كبده، الأمر الذي سيتسوجب لاحقاً عملية زرع تشترط التوافق الوراثي الخاص بالأنسجة وفصيلة الدم بين الأب وطفله.
عند هذه النقطة المفصلية، سيتلقى الأب فارس من زوجته مريم صدمة عدم بنوته لطفله، يستفيق منها تحت تأثير عاطفته وتربيته له لأحد عشر عاماً، وضميره الذي يملي عليه الواجب أمام احتمال خسارة الطفل. لتبتدىء رحلة المعاناة بين انتظار متبرع عبر السبل القانونية، وهو أمر شديد الصعوبة في ظل انعدام ثقافة التبرع بالأعضاء، والبحث مع زوجته مريم عن والد الطفل الحقيقي سامر وإقناعه بإنقاذ ولده الذي يجهل بنوته له سابقاً. وبين حالتي الانتظار الشاقتين جسدياً ومعنوياً، يبرز الحل القسري لشراء كبد عبر سوق تجارة الأعضاء السوداء.
سوق سوداء للإتجار بالبشر وتجارة الأعضاء، مرعبة وشديدة التوحش، تستخدم الخديعة العاطفية للايقاع بالضحايا قبل عقد الصفقة وبعدها، يدخل الفيلم عوالمها ويوجزها عبر مشاهد سريعة ومركزة وشديدة القسوة. لكنه عالم حقيقي غير متخيل، ينشط في الظل كبديل غير أخلاقي، يتغلغل كفساد عظيم له أذرعه والمستفيدين منه في كل الأماكن الرسمية والعامة والخاصة، وقادر أن يغيّب أو يخدر المحاكمة الاخلاقية لبعض الوقت عند أصحاب الحاجة الذين يواجهون، أو يواجه أحد أحبابهم مصير الموت.
اختار المخرج بدقة أن يصاب الطفل في كبده، انطلاقاً من علاقة الأهل بأولادهم الذين يعتبرون فلذات أكبادهم. وأمام صدمة الخيانة واكتشاف عدم البنوة، يضع المخرج جميع أصحاب الشأن، وفي مقدمهم الأب غير الحقيقي فارس المربّي لطفله، أمام الاختبارات الصعبة العاطفية والوجدانية والأخلاقية للعلاقة مع هذه الفلذات، يمكن البناء عليها كرؤية صادقة وعامة تخص المجتمع وترتبط بعمق أواصر العلاقات الأسرية، ومفهوم الحب، والتضحية، بموثوقية الروابط الوراثية أو حال اكتشاف خديعتها.
في الخديعة التي يستجر بها تاجر الأعضاء فريسته الأب فارس لإقناعه بشراء كبد بشكل غير قانوني، يحدثه التاجر بعاطفة مفتعلة ومفرطة عن مصدر هذه الأعضاء القادمة من القتلى الذين باتوا يسقطون في ليبيا بمعدل يفوق عشرين قتيلا يومياً، وبأهمية الاستفادة من أعضائهم لمنح الحياة لآخرين على شفا الموت مثل الطفل عزيز.
ورغم أننا سنكتشف لاحقاً حقيقة مصدر الأعضاء البشرية القادمة من الاتجار بالبشر، إلا أن كلمات التاجر القاسية لاتخرج عن حقيقة الأمر، وتعيد فتح كل جراح الذاكرة، والاسترسال في تخيل حجم الجرائم والثروات التي تكدست من الاتجار بأعضاء القتلى في حروب العالم، وبخاصة الأحدث منها زمنياً والممتدة من اليمن إلى سوريا والعراق وليبيا وغيرها. فضلا عن التخيل المرعب للمصير المحتمل الذي يواجهه كل الأطفال المختطفين والمتاجر بهم، واحتمال تقطيع أجسادهم لسرقة أعضائهم في وضع مشابه لمصير الطفل "كبدة" المختطف، الذي يظهر في الفيلم لدقائق، ويبقى في الذاكرة إل الأبد.
الخيانة، الحب، الضمير، الحرية، الأخلاق، الأبوة، القتل، الحرب، الفقر، والفساد، كلها حضرت برمزياتها في فيلم (بيك نعيش) بمزيج متجانس، لاشك أن البرصاوي طاهٍ سينمائي بارع، قدمها بمقادير ونسب دقيقة، وترجمها بأسلوبية سردية بسيطة وعميقة، ورسالة سينمائية تدرك حجم المسؤولية الأخلاقية المناطة بها في أهمية مواجهة مثل هذه الملفات الانسانية الحساسة والمساهمة في الإضاءة عليها عبر السينما، كأداة مؤثرة، بل مؤثرة للغاية.