يتساءل كثيرون عن مفهوم الآية القرآنية الكريمة:
"قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ".
وللأسف فقد تم استخدام هذه الآية عبر التاريخ وفهمها بصورة خاطئة لتبرير العدوان على اتباع الديانات الأخرى وعرض واحد من ثلاثة خيارات عليهم: إما الإسلام وإما "الجزية" (وهي في مفهوم العديد من كتب التراث ضريبة يدفعها غير المسلمين وهم أذلاء للدولة الإسلامية)، وإما القتل.
وهذا المفهوم العدوانى للآية يتعارض صراحةً مع مبدأ القرآن المُحكَم والذي يحرم الاعتداء على الآخرين (وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) ويتعارض أيضاً بوضوح مع قوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
ولفهم الآية المذكورة "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" علينا أن نلاحظ مايلي:
أولاً:
إن الآية القرآنية استخدمت تعبير (الَّذِينَ) و كلمة "الذين" هى أداة تعريف تحدد المعنى فقط في "طوائف محددة بعينها فى وقت نزول القرآن كانت هى البادئة بالعدون حينذاك كما ذكر القرآن بوضوح في قوله تعال (وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ) و حتى في هؤلاء المعتدين يقول القرآن (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ - أي قبلوا العيش في سلام - فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا).
و لو أراد القرآن تعميم المعنى في آية "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" على كل المسيحيين واليهود وليس فقط حصره فى وقت الصراعات الأولى من تاريخ الإسلام ضد مجموعة بعينها - لاستخدم تعبير (من) بدلاً من "الذين" أي لكان قد قال (قَاتِلُوا من لَا يُؤْمِن بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر) بدلاً من قوله (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر).
وموقف الرسول الواضح بعد الرجوع إلى مكة، يؤكد أن مفهوم محاربة غير المسلمين وعرض (الإسلام أو الجزية أو القتل) عليهم ليس من القرآن فى شيء، فالرسول قال لأهل مكة - وفيهم مسيحيون ويهود وعبدة أوثان وهم الذين بدأوه بالعدوان - حينما رجع إليها (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، ولم يقل لهم أن يختاروا بين (الإسلام أو الجزية أو القتل).
ثانياً:
إن كلمة "الْجِزْيَةَ" المذكورة في الآية الكريمة تعني "جزاء" فعل ما ولا علاقة لها بمفهوم أخذ مال من عدو وهو ما يسمى فى القرآن بالخراج. وقد أكد القرآن أن من دلائل نبوة الرسول عليه السلام هو "عدم" أخذ "خراج" من أى إنسان (أمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
وبالإضافة إلى ذلك، وكما جاء في "لسان العرب"، فإن الجزية هى المُكافأَة على الشيء، (جَزَاه به وعليه جَزَاءً وجازاه مُجازاة و جزية).
وكما قال أَبو ذؤَيب: "فإِنْ كنتَ تَشْكُو من خَليلٍ مَخانَةً، فتلك الجَوازي (جمع جزية) عُقْبُها ونَصِيرُها". بمعنى (أَي أنك جُزِيتَ كما فعَلْتَ)، ومنها قوله تعالى: (واتَّقُوا يوماً لا تَجْزي نفسٌ عن نفس شيئاً)؛ وقوله تعال (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؛ و قوله عز وجل (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى).
فالآية المذكورة "قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ"، تتكلم عن موقف بعينه مع طوائف محددة وقت نزول القرآن، وعن جزاء فعلهم (الجزية) كما تم شرحه أعلاه. و تُقرأ كلمة «يعطوا» في هذا السياق (يُعْطَوْا) - بفتح الطاء وسكون الواو- كما في قوله تعال "وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ "يُعْطَوْا" (أي يأخذوا) مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُون".
وللحديث بقية!