نظام حكم اللصوص هو ترجمة لمصطلح الكليبتوقراطية
نظام حكم اللصوص هو ترجمة لمصطلح الكليبتوقراطية

يُميّز عالمُ الاجتماع الألماني ماكس فيبر في كتابه (العِلم والسياسية بوصفها حرفة) بين طريقَتين يمكن بهما جعل السياسةَ حرفةً: الأولى، إما أن يعيش المرءُ "لأجل" السياسة. والثانية، أن يعيش "مِن" السياسة. والفرق يتعلّق بالجانب الاقتصادي، فمَن يعتبر السياسةَ وظيفة يعتاش منها هو الذي يسعى إلى أن يجعل منها مصدرَ دخلٍ دائم له. أمّا مَن يحيا من "أجل" السياسة فهو يجعل منها، بالمعنى الأعمق لِلكلمة، "هدفَ حياته"، فهو إما يلتذّ بالسلطة التي يمارسها بمجرد امتلاكه لها، أو لأنها تؤمّن له توازنه الداخلي أو تعبّر عن قيمة شخصية، إذ يعني أنه قد جعل نفسَه في خدمة قضيّةٍ تعطي حياتَه معنى. 

وعندما تكون قيادة دولةٍ ما أو حزب ما بيد أناس يعيشون (بالمعنى الاقتصادي للكلمة) كليّاً من أجل السياسة، وليس من السياسة، نكون أمام نموذج لنظام الحكم (البلوتوقراطي): وهو النظام السياسي الذي تكون فيه الطبقات السياسية المسيطرة والماسكة بزمام السلطة طبقة الأغنياء وأصحاب الثروات. 

والمعيار الذي يحدده فيبر هو المدخل التفسيري للأنظمة الكليبتوقراطية (نظام حكم اللصوص) الذي بات هو الوصف الأدق للأنظمة السياسية التي لم تنتج إلا الخراب والدمار والفوضى لشعوبها. لأن معايير الاحترافية السياسية في بلداننا هي العيش "مِن" السياسة، ولذلك تكون قدرة وقوة الأحزاب والزعامات السياسية في الاستحواذ والهيمنة على المال العام وموارد الدولة. وقد يختلف حكم اللصوصية من ناحية الدرجة، لكنه على مستوى واحد من حيث نوعية نظام الحكم. 

نظام حكم اللصوص هو ترجمة لمصطلح الكليبتوقراطية  Kleptocracy وتعرفه الأدبيات السياسية بأنه النظام الذي يسمح بالفساد وسرقة المال العام والخاص من خلال تسهيل استغلال المناصب الإدارية والسياسية من قبل القائمين على مرافق الدولة، ويعبّر عن نظام حكم جوهره الفساد واللصوصية أو نهب الثروات العامة.

 

في العراق، وبعد تجربة ثمان عشر عاماً على تغيير النظام السياسي، لم تنتج لنا تلك التجربة نموذجاً للاحترافية السياسية

 

ويقوم هذا النظام على اندماج وتحالف بين مَن يمسك السلطةَ السياسية وسلطة مافيات لصوصية تسطو على الثروة العامة بوسائل عديدة يتم شرعنتها، بآليات عمل حكوميّة رسميّة عبر برامج ومشاريع وهمية وأشكال من التَسَتُّر على سرقات المال العام. 

المفارقة تكمن عندما يُعنوَن النظام السياسي بالديمقراطي، ويتبجح حكامُه بأنهم يمثلون الإرادة الشعبية! لكنّه في واقع الحال هو نظام "كليبتوقراطي". إذ أصبحت الديمقراطيات الهشّة في الدول الفاشلة مصانع لتفريخ مافيات الفساد، ولا يمكن لها أن تنتج إلا نموذجاً لنظام حكم اللصوصية. 

فالانتخابات في هذه البلدان تكون هي البوّابة لإدامة منظومة الفساد، لأنّها تكون مواسم لتجديد "شرعيّة" حكم اللصوص وليس فرصةً للتقييم والمحاسَبة. ولذلك نجد مخرجاتها إنتاج أو إعادة تدوير السياسي الديماغوجي وغياب السياسي المحترف. وفي هذه الحالة يكون عمل المنظومة السياسية ومَن يتصدّى للحكم وإدارة مؤسسات الدولة قطعاً ليس خدمة القواعد الشعبيّة، وإنما ضمان توفير العائدات المالية للأحزاب وزعاماتها السياسية وضمان بقائها ضمن دائرة السلطة والنفوذ. 

في العراق، وبعد تجربة ثمان عشر عاماً على تغيير النظام السياسي، لم تنتج لنا تلك التجربة نموذجاً للاحترافية السياسية. بل على العكس تماماً، قدمت لنا أنموذجاً للسياسي الديماغوجي الذي يعمل على وفق معادلة: السلطة التي تلد السلطةَ والثَّروة. وبما أن المحاسبة والرقابة على الأداء السياسي كانت ولا تزال غائبة في الممارسة السياسية وفي وعي وسلوك الجمهور، فإن التحالف بات وثيقاً بين طبقة سياسية محترفة في إنتاج وديمومة الفوضى والخراب وبين نظام سياسي باتت وظيفته الأساس تأمين مصالح وصفقات طبقة السياسيين الكليبتوقراطيين. 

 

لا يمكن التعويل على نظام حكم اللصوصية بأن يكون قادراً على إنتاج نموذج للسياسي المحترف

 

الأحزاب السياسية في العراق هي أحد أهم مكامن العجز في انتاج نموذج السياسي المحترف، فهي أحزاب تقوم على أساس الزعامات والرمزيات العائلية، وأنها ليست أحزاب على وفق معايير العمل والممارسة السياسية، بل هي تجمعات تقودها شخصيات تستثمر بعناوينها العائلية ذات الرمزيات الدينية، أو تقودها شخصياتها أنتجتها المناصب السياسية التي وصلوا إليها بمحض الصدفة وليس الخبرة والكفاءة والاحترافية بالعمل السياسي. ومن هنا، نجد أغلب هذه الأحزاب توصَف بالهشاشة، لأنَّ احتمالية تشظّيها وتفككها أكثر من فرص بقائها متماسكةً، لأنَّ الزعامات في الأحزاب تعتقد أن الاحترافية السياسية لا تقوم على أساس خدمة قضية معينة يؤمنون بها، كما يعتقد ماكس فيبر، وإنما معيارها في نظام الكليبتوقراطية هو الولاء للزعيم والقائد، ومن ثم القدرة على الاستحواذ والسيطرة على الاقتصاد الريعي وما يتوفر من موارد الدولة. 

كذلك في نظام حكم اللصوص، يكون هدف تقاسم السلطة بين زعامات هذا النظام هو الأيديولوجيا التي توحّد الفرقاءَ السياسيين، وليس مهمّاً مَن يحكم ومَن يكون على رأس السلطة، مادام يلتزم باشتراطات الزعماء السياسيين وحاشيتهم، ولا يمنع تغوّلهم في الهيمنة على الموارد الاقتصادية للدولة. وأكبر أكذوبة تروجها الحكومات في النظام الكليبتوقراطي هي شعار (محاربة الفساد)، لأنَّها في واقع الحال مهمتها الأساس إدارة وتنظيم وشرعنة صفقات الفساد وتنظيم أبواب الهدر في المال العام. وحتّى لو حملناها على حُسن الظن، فهذا الشعار يرفع لمنع الشراكة في صفقات الفساد، لأنَّ الحكومات والمافيات السياسية ترفض أن يكون لها شركاء جدد في الفساد. 

لا يمكن التعويل على نظام حكم اللصوصية بأن يكون قادراً على إنتاج نموذج للسياسي المحترف، فالمنظومة السياسية التي تقوم على أساس تحالف مقدس بين الفساد والعمل السياسي، تكون الاحترافية السياسية فيه تعمل على وفق معيار الإدامة والابقاء على عمل هذه المنظومة، وليس التمرد عليها. فهذه الأنظمة لا تنتج إلا الفاسدين ولا تأتي إلى سدة الحكم إلا بالفاشلين. ومن ثمَّ، لا يمكن لها أن تنتج لنا أنموذجاً لقائد سياسي مثل "مهاتير محمّد" صانع النَّهضة الماليزية، أو "لي كوان يو" صانع معجز سنغافورة. 
 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.