تمضي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، في توضيح معالم رؤيتها للعلاقة الأميركية – السعودية. فمع كل موقف وتصريح يصدر عن أركان هذه الإدارة، ترتسم ملامح هذه العلاقة، وتتضح محدداتها، وتتبلور "المعادلات" الناظمة لها، وأهمها اثنتان:
الأولى تنهض على فكرة الجمع بين "مصالح" واشنطن و"قيمها".
والثانية تتعلق بكيفية إدارة هذه العلاقة، بأقل قدر من "التفاعل" مع الرجل الأقوى في النظام السعودي، ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان.
لم تترك إدارة بايدن مجالاً للشك، في أن لها من المصالح الكبرى في السعودية، ما يملي عليها الحفاظ على هذه العلاقة، وتمتينها. فالدولة الأغنى في المنطقة، والمُورّدِ الأول للنفط في العالم، صاحبة الدور القيادي في الخليج والعالمين العربي والإسلامي، لا يمكن تركها وإدارة الظهر لها... الفراغ الأميركي في السعودية، والخليج استتباعاً، ستملأه بالضرورة، قوى دولية منافسة لواشنطن، ولاسيما الدولتان اللتان تتصدران قائمة "مهددات الأمن القومي الأميركي" في العالم: روسيا والصين... هذا ليس خياراً. لم يكن كذلك بالنسبة للإدارات الأميركية المتعاقبة من ديمقراطية وجمهورية، ولن يكون خياراً لهذه الإدارة والإدارات المقبلة، أقله طالما ظلّ النفط، سلعة استراتيجية، وطالما ظلت المملكة تتمتع بدورٍ قيادي في سوق الطاقة العالمي.
لكن هذه الإدارة التي حازت على ثقة ثمانين مليون أميركي، بشعارات تنتمي في معظمها لـ"منظومة القيم الأميركية"، من ديمقراطية وحقوق إنسان وسيادة القانون، لن يكون بمقدورها أن تضرب عرض الحائط بكل ما "بَشّرت" به، وهي تنسج خيوط علاقاتها الدولية مع حلفاء "إشكاليين" في منطقة الشرق الأوسط، لم يُعرَف عنهم يوماً، احترامهم لهذه القيم أو حتى اعترافهم بها.
وثمة سبب آخر، يجعل التخلي عن هذه المنظومة القيمية، أمراً مكلفاً لواشنطن وسياستها الخارجية، فهي إن أرادت تفعيل "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية"، كإحدى أدوات "قوتها الناعمة" في المواجهة الأكبر مع أعدائها: الصين وروسيا، لا يمكنها غض الطرف عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان من قبل حلفائها، ومن دون أن تقامر بفقدان مصداقيتها.
لذلك كله، لم تترك هذه الإدارة مجالاً للشك في استمساكها بالمعايير القيمية والحقوقية، وهي تصوغ علاقاتها مع المملكة، فلا يكاد يصدر تصريح واحد من واشنطن حول السعودية، إلا ويبدأ أو يُختتم، بإبراز هذا "المكون" في العلاقة بين البلدين، وتلكم معضلة بحد ذاتها. فلا السعودية قادرة على مجاراة واشنطن في دعواتها ومطالباتها، ولا الأخيرة، بوارد التسليم للرياض، بأن تفعل ما تشاء في الداخل والخارج.
عقدة ولي العهد
ويزداد مشهد العلاقة الأميركية – السعودية تعقيداً، بالنظر للدور المركزي الحاسم، الذي يلعبه رجل النظام القوي، الأمير الشاب محمد بن سلمان. فخطوط القوة والسلطة والثروة، تجمعت بين يديه كما لم يحصل لأي ملك أو ولي عهد في تاريخ المملكة الحديث، وأي محاولة للقفز من فوقه، تبدو ضرباً من العبث، وتجعل من صاحبها كمن يدفن رأسه في الرمال.
والأهم من كل هذا وذاك، أن الرجل ارتبطت باسمه شخصياً، ما تعدّه واشنطن، أبشع وأخطر انتهاكات الداخل ومغامرات الخارج... باسمه شخصياً، ترتبط حملات الاعتقال لمعارضين ورجال أعمال ورجال دين وأمراء (بعضم من أقرب الأصدقاء لواشنطن)... باسمه شخصياً، ارتبطت الحملة على ناشطي وناشطات حقوق الإنسان والمدافعين عن حقوق النساء وحرياتهن... باسمه شخصياً، ارتبطت الجريمة الأبشع ضد كاتب في صحيفة أميركية ومقيم على الأرض الأميركية: جمال خاشقجي... وباسمه شخصياً، ترتبط بعض قضايا الفساد من العيار الثقيل: يخوت وقصور ولوحات فنية، بمئات ملايين الدولارات.
أما في الخارج، فباسم ولي العهد، ارتبطت الحرب على اليمن، والتي تسببت بأكبر مأساة إنسانية في العصر الحديث، ما زالت فصولها مستمرة حتى يومنا هذا، مع كل ما رافقها من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية... وباسمه شخصياً، ارتبط الحصار الذي ضُرب على قطر، وما رافقه من معلومات، تحدثت عن خيارات كان من بينها تدبير انقلاب وشن اجتياح للإمارة الصغيرة.
كل هذا وغيره، بات معروفاً للإدارة الجديدة، التي وعدت بـ"الكشف عن المستور"، وتحديداً ما اتصل بجريمة اغتيال خاشقجي، حيث ستكون العاصمة الأميركية والعالم، على موعد قريب مع الكشف عن تقارير استخبارية أميركية، أخفتها إدارة ترامب، تتصل بمسؤولية ولي العهد عن مقتل الكاتب في الواشنطن بوست، والتي تقول "التسريبات" بشأنها، بأنها تراوح ما بين مسؤولية "متوسطة" و"عالية".
إزاء وضع كهذا، لن يكون كافياً، أن يقرر الرئيس بايدن، حصر اتصالاته السعودية بالملك شخصياً، وتخطي ولي العهد، الحاكم بأمره. صحيح أن قراراً كهذا، له ما يفسره من الناحية الشكلية و"البروتوكولية"، وربما يرفع الحرج عن بايدن شخصياً، لكن الصحيح كذلك، أن ما من مسألة يمكن حسمها، لا في ملف العلاقات الثنائية بين البلدين، ولا في غيره، من دون أن تحظى بقبول وإقرار من الأمير محمد بن سلمان. تلكم عقدة في ملف العلاقات الثنائية بين البلدين، بحاجة لـ"منشار" كبير لحلها، والمؤكد أنه لن يكون من النوع الذي استخدم لتقطيع جثمان الصحفي السعودي.
كيف ستتصرف واشنطن؟
من الواضح تماماً، أن إدارة جو بايدن، تفضل سيناريو انتقال العرش السعودي، إلى أمير آخر، غير ولي العهد، لكن المسافة بين التفضيلات والقدرة على تحقيقها، لا تبدو قصيرة، أو من النوع الذي يسهل اجتيازه. فالرجل بنى لنفسه، قاعدة سطوة ونفوذ، يصعب تفكيكها، وأظهر أنه قادر على تحطيم قلاع النظام القديم، بأقل قدر من المقاومة، فلا "المؤسسة الدينية المحافظة" أظهرت قدرة على المواجهة والصمود في وجه رياح التغيير التي عصفت بمكانتها، ولا "العائلة الملكية الممتدة" برهنت أنها قادرة على احتواء "الطوفان" الذي أطاح بكبارها، وتركهم خلف القضبان، ولا مجتمع رجال الأعمال، الطفيلي، الذي نما على جذع "الأعطيات" و"العطاءات" الحكومية، أظهر تماسكاً جدياً في مواجهة ما ينتظره، بل سرعان ما تكيف مع معطيات المرحلة الجديدة، بحثاُ عن فرصٍ جديدة.
في وضع كهذا، يبدو أن واشنطن، ستواصل الضغط على ولي العهد وعزله ما أمكن، بهدف "إحراجه على أمل إخراجه"، لكنها في الوقت نفسه، لن تقطع حبال التواصل معه، وإن على مستوى "دون رئاسي"، وستُفعّل في المقابل، صلاتها مع "المؤسسات" السعودية، من أمنية وعسكرية وسياسية واقتصادية ومالية، في محاولة منها لشق "طرقٍ التفافية" من حوله. فالمصالح التي يتعين الحفاظ عليها، تملي خياراً كهذا، لا بل أن واشنطن لم تتردد في تأكيد جاهزيتها، للحفاظ على أمن المملكة وسلامتها، في وجه أية تهديدات خارجية، معيدة إلى الأذهان ما سبق للرئيس باراك أوباما أن أبلغه لقادة دول الخليج الست (أو من ناب عنهم)، حين التقاهم في منتجع كامب ديفيد، في مختتم ولايته الثانية: واشنطن ملتزمة بحماية المملكة ودول الخليج من التهديد الخارجي، أم التهديدات الداخلية، فهي من مسؤولية قادة هذه الدول للتعامل معها، في إشارة مباشرة لملف الديمقراطية والحوكمة الرشيدة وحقوق الإنسان والحريات العامة.
وربما تكون واشنطن تسعى بلجوئها إلى "معادلة" كهذه لتنظيم علاقاتها مع السعودية، إلى تشجيع العائلة الملكية على التدخل، لتغيير سلسلة انتقال الحكم بين أفرادها، وثمة أصوات في واشنطن، بدأت تستذكر ولي العهد السابق، الأمير محمد بن نايف (قيد الاعتقال أو الإقامة الجبرية)، بوصفه الصديق الأفضل لواشنطن، والحائز على أرفع أوسمتها، عرفاناً بجميله في إنقاذ حياة أميركيين كثر، وتدعو لممارسة أقصى الضغوط للإفراج عنه، بل ومساعدته للعودة إلى قمة هرم السلطة والعائلة.
وستواصل إدارة بايدن سعيها الديبلوماسي بحثاً عن حلول لبعض الأزمات المشتعلة في المنطقة، من دون انتظار "الضوء الأخضر" السعودي، حتى وإن جاءت أحياناً بالضد من رغبة المملكة، أو وفقاً لحساباتها... في هذا السياق، يندرج بحث واشنطن عن حلٍ تفاوضي للقضية الأهم والأكثر تفجراً في الإقليم: برنامج إيران النووي، وما يحيط بها ويتفرع عنه من قضايا وتحديات... وفي السياق ذاته أيضاً، تأتي انتباهة واشنطن المبكرة، للأزمة اليمينة، وإصرارها على تسريع المسار الديبلوماسي، وتأكيداتها المتكررة بأن "لا حل عسكرياً" لهذه الأزمة، ومبادرتها إلى رفع جماعة أنصار الله الحوثية من لوائح الإرهاب، وتنشيط قنوات التواصل "غير المباشر" معها، كما كشف تيموثي ليندركينغ، في الوقت الذي كانت فيه الجماعة، تُصعّد من وتيرة هجماتها على المملكة، وتخوض أعنف المعارك، منذ اندلاع الحرب في اليمن وعليه، لبسط سيطرتها على محافظة مأرب الاستراتيجية.
خلاصة القول: أن العلاقة بين الرياض وواشنطن، في وضع صعب ومعقد للغاية، وربما لم تجد المملكة نفسها خلال السبعين عاماً الفائتة، في وضع "حرج" كالذي تمر به اليوم، لاسيما وأن علاقتها مع الدولة الأعظم في العالم، كانت على الدوام، شبكة أمانها، وأحد أهم عناصر قوتها واستقرارها، وأهم مداخل دورها الإقليمي والعالمي.
وستواجه واشنطن حرجاً أشد في علاقتها مع الرياض، عندما تحين لحظة انتقال السلطة في المملكة، في حال عجز الملك عن أداء مهام منصبة، إما بالوفاة أو لاشتداد وطأة المرض عليه، وهذا سيناريو لا يمكن استبعاده، وقد يحدث في أية لحظة، عندها ستكبر "عقدة ولي العهد" وتتضخم، وسيتعين على البلدين إما الاكتفاء بالحد الأدنى من هذه العلاقات و"التكيف" مع كل ما قد تشهده من صعود وهبوط، أو الالتقاء في "نقطة ما" بين مطالب واشنطن واستجابة الرياض، الأمر الذي يستوجب حكماً، تخلي الأولى عن مبادئ المساءلة وعدم الإفلات من العقاب، وجنوحها لطي صفحة الماضي، على قاعدة عفا الله عمّا سلف، وفتح صحفة جديدة، تحتمل تخفيف حدة انتهاكات الداخل ووقف مغامرات الخارج.