مواطن كويتي أثناء تلقيه لقاح كورونا
مواطن كويتي أثناء تلقيه لقاح كورونا

أعود هذه الأيام لمشاهدة مسلسل Snowpiercer والذي يحكي قصة قطار تم صنعه ليحمل نخبة بشرية بعد أن تنخفض درجات الحرارة على الأرض وتنعدم الحياة عليها، وذلك ضماناً لاستمرار البشرية التي ستبقى تلف وتدور في هذا القطار إلى أن تعود الأرض لشيئ من صحتها. ما يحدث على متن هذا القطار من بشاعات مرعب جداً، ذلك أنه لا يبتعد كثيراً عن واقعنا، وذلك أن بوادره قد لاحت بعد أزمة وباء الكورونا. يبدو أحياناً خلال تعاملنا مع هذه الأزمة أن كل، كما هؤلاء الذين على القطار، يريد أن يحمل نفسه إلى نقطة الخلاص، غير مستوعبين أنه لا وصول لهذه النقطة بلا تعاضد جمعي. في الواقع كل الفلسفات الإنسانية التي طالما نُظر إليها على أنها مثاليات ومبالغات إنسانية، هي اليوم حقائق ومتطلبات حياتية، إذا أردنا لنوعنا أن يستمر، علينا أن نعمل كلنا كبشر معاً.  

لكننا لا زلنا لا نفعل، بل لازلنا نتعاند والعقل والمنطق، لازلنا كائنات غريبة لم يروضها الزمن والعلم والتقدم الذي أوصلت هي بحد ذاتها نفسها إليه. دخلت يوم أمس غرفة على "الكلوب هاوس" أستمع لحوار حول سبب نحي المجتمع الكويتي للشائعة ولنظريات المؤامرة، فكان أن وفرت شاشة التلفون الفاصلة بين الناس، والتي "تحميهم" من المواجهة المباشرة، المزيد من الحريات الحوارية التي ساعدت على إظهار غرائبية، أحياناً قلة ذكاء وأحايين أخرى جهل متعالي عند البعض. كان هناك هجوم كبير على الطبيب المتحدث في الغرفة، والذي كان يحاول إقناع الناس بأهمية التطعيم وبانتفاء مخاطره، مما دفعه بدوره لأن يفقد أعصابه ويمعن في بعض القسوة تجاه محدثيه، حيث بقي يكرر: أنا أوقع على شهادة وفاة لمصابي الكورونا يومياً، ألا تستوعبون؟ ورغم ذلك، استمر الهجوم الغريب، اللاعقلاني والفكاهي أحياناً، في ردة فعل تصور الموضوع وكأنه صراع بين الطبيب ومحدثيه، لا صراع بين البشرية بأكملها ووبائها الفيروسي القاتل. 

إلا أن الموضوع في الكويت لا يقف حد تداول نظريات المؤامرة الفكاهية، هناك كذلك حالة تحد مع الأوامر الحكومية لربما تحركها غياب التنظيم والشفافية الحكوميين، حيث ساد التخبط القرارات وغاب الشرح والتواصل حول أسباب اتخاذ هذه القرارات عن المشهد العام، وذلك على عكس ما حدث في بداية أزمة الكورونا من تنظيم وتواصل، مما ترك الناس نهب الشائعات والتحليلات الشخصية. أعرب بعض المواطنين الكويتيين مثلاً، بعد صدور قرارات بتنفيذ حظر جزئي في البلاد ابتداءاً من الأحد الماضي، من خلال مقابلات تلفزيونية أنهم سيتجمعون رغم أنف القرارات، وأنه لن يستطيع أحد إيقاف تواصلهم. في حوار لي مع ابنتي حول الموضوع، دفعتني آمرة: ماما اكتبي وقولي "الحكومة ليست أباكم حتى تعاندونها وتتحايلون على إجراءاتها، الحكومة لم تضع (كيرفيو) لتحاولوا تجاوزه مثل المراهقين المتحايلين على أهلهم، كلنا نواجه وباء مميت، حربنا معه وليست مع الإجراءات الحكومية". أعجبني تعليق الصغيرة في مقاربتها بين تعامل الشعب مع الأوامر الحكومية والوضع الأسري المقاومي بين الأهل والأبناء، وكأنها، بقصد أو دونه، تنتقدني كأم وتؤكد استحقاق مقاومتها.  

إن ردة فعل الشعب الكويتي تجاه حكومته مقارب لردود الفعل العربية عامة، وهي ردود لها جذور مسبقة وليست وليدة لحظة ظهور الكورونا. حالة التشكيك والتعاند والقرارات الحكومية هي حالة عربية بامتياز ناتجة عن غياب الإيمان بالعمل المؤسسي في دولنا والكفر التام بصحة وحكمة قراراتها وقدرتها على قيادة الأزمات، وفي ذلك، لربما لا نستطيع أن نلوم الشعوب العربية كثيراً. هناك كذلك الظاهرة العربية لغياب الصرامة في تطبيق القرارات وسيادة الواسطة التي سترخي تماماً عضلة القانون وستجعل عدد التجاوزات يفوق عدد التطبيقات، وبما أننا كشعوب نرى بأم أعيننا ونسمع بأم آذاننا تزحلق القيود والأوامر فوق الظهور اللزجة الملساء لأصحاب الوساطات، وبما أن كل عربي تقريباً يستطيع أن يوفر وساطة من نوع، فإن هذا المنحى يحول الموضوع مباشرة من تحدي بشري لفيروس، لتحدي بشري للقوانين باستخدام وساطات أشد فتكاً من الفايروس بحد ذاته. عندنا في الكويت الكل يعلم بالتجاوزات التي ستقع لأوامر الحظر من خلال تصريحات الخروج الوسائطية والتفويتات الأمنية للواصلين والقادرين وأحياناً للكويتيين لأنهم فقط كويتيين. حين تسقط صرامة تطبيق القانون، تكر سبحة كل القرارات كأنها حبات خرز مبعثرة لا سبيل لجمعها. 

في بلداننا العربية، والخليجية بالذات، الواسطة، والتي أتصورها أخطر أنواع الفساد على الإطلاق، تحولك، تغيرك إلى شخص لا تود أن تكونه. مع هذا المفهوم المريض، يصعب عليك أن تكون مواطنا صالحا، أن تلتزم وأنت ترى غيرك يكسر القانون دون تورية أو استحياء، يصعب عليك أن تقطع الحق من نفسك وأنت تتوافر لك، فقط بحكم مواطنتك أحياناً، وساطات جاهزة تمكنك دوماً من تجاوز القانون. نعم، لربما نوعية حيواتنا وانغراس فساد الوساطة فيها يشجع على التمرد الدائم، ولكن الخوف على الحياة ألا يدفع لشيئ من العقلانية والتمهل والتأمل والعالم كله يتصارع وهذا الوباء القاتل؟  

إلى ما قبل تطبيق الحظر الجزئي والذي بدأ الأحد الماضي والحفلات تقام عندنا في الكويت رغم ارتفاع نسب الإصابات ورغم النداءات الحكومية المستمرة. في تجربتي الشخصية، حين ألمح باعتراض أو مخاوف دوماً ما يأتي الرد بواحد من اثنين: يا ستي الله الحافظ، أو، اشمعني غيرنا واحنا بس الممنوعين. وهكذا يتجلى لنا أن ثقافتنا هي سبب رئيسي في ارتفاع اصاباتنا واستمرار معاناتنا: من جهة يستخدم البعض الإيمان التام بالقدرية ليستمتع بالحياة كما يريدها معتمداً على مفهوم أن ما يكتبه الله سيكون وينسى مفاهيم أخرى مثل اسع يا عبد وأنا أسعى معك، و"لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، ومن جهة أخرى يتكئ البعض على تباين المعاملة بينه وبين آخرين، معتمداً تماماً على "حقيقة" أن هؤلاء الآخرين سيخالفون ولابد، وأن القانون سيكسر ولابد، وأن الوساطة ستكون في أوجها إذا ما وقعت واقعة ولابد ، فلم إذن الاإلتزام إذا كان القدر مكتوب مبدئياً في السماء والواسطة قدر ملزم في الأرض؟ 

دول كثيرة تعاني كما نعاني، لا أفرد الكويت أو المنطقة العربية بارتفاع الأرقام وانتشار الوباء، ولكنني أحلل العقلية وطريقة التعامل مع الظروف وأسبابها وتداعياتها في هذا الجزء الغريب من العالم الذي هو منطقتنا العربية. لكل مجتمع أسلوبه في التعامل والتحليل والتمحيص، ولكن لا أحد يشبهنا ونحن نتحدى القانون ونسلط عليه الوسائط والعلاقات ونلوي عنقه حد كسره، حتى عندما تكون أرواحنا على المحك. شخصياتنا قوية، ما شاء الله! 

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.