المسؤولون اللبنانيون يحاولون عرقلة مسار التحقيقيات في قضية انفجار مرفأ بيروت
"لحظة انفجار المرفأ أيقن اللبنانيون أنهم تجاوزوا مرحلة الانهيار، وأنهم ذاهبون إلى مرحلة السقوط الشامل التي ستنتهي بارتطام كبير"

في 17 تشرين 2019 بدأ العد العكسي للمنظومة الحاكمة، منظومة، رغم اهترائها، من المستحيل أن تسقط بالضربة القاضية. وحتى انتفاضة تشرين غير قادرة على تسديد تلك الضربة، لذلك دخلا معا في مرحلة مراوحة معقدة؛ فلا المنظومة قادرة على العودة إلى ما قبل 17 تشرين، ولا الانتفاضة جاهزة حتى الآن لتكون البديل، فاستمرت الأخيرة متمسكة بمعاييرها التي رفعتها من شمال البلاد إلى جنوبها، دون القدرة على فرضها، فيما الأولى مستمرة بإنكار ما حصل، وتُظهر أنها قادرة على إعادة ترميم نفسها.

بعد 17 تشرين، تبلور أمام الرأي العام المحلي والخارجي مشهد الانهيار الشامل، لكن المأزق كان في مسيرة الانهيار وكيفيته ومدته: أي متى وكيف سيصل لبنان دولة وشعبا إلى تلك اللحظة؟ والسؤال المحيّر الذي لم يملك أي طرف أجوبة عليه هو حجم هذا الانهيار وقسوته. فقد كان طرفا المواجهة (الانتفاضة والمنظومة) في اشتباك طويل، ولم يستطع أي طرف ليّ ذراع الآخر، وقد ارتبط الاشتباك بينهما في تحديد من سيصل إلى لحظة الانهيار بأقل الخسائر، إلى أن جاءت لحظة 4 آب 2020.

لحظة انفجار المرفأ أيقن اللبنانيون أنهم تجاوزوا مرحلة الانهيار، وأنهم ذاهبون إلى مرحلة السقوط الشامل التي ستنتهي بارتطام كبير. وأخطر ما في هذا الارتطام أنه سيتسبب بتشظي الدولة والمجتمع وحتى الجغرافيا، ولن يستثني أحدا، خصوصا أنه سيكون لحظة إعلان نهاية لبنان الذي نعرفه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

على الأرجح أن الارتطام سيكون من جزئين: ارتطام الدولة وارتطام الدويلة. الأولى حالتها واضحة تنتظر الإعلان رسميا أن لبنان دولة فاشلة، وتحتاج إعادة تكوينها إلى عقدين، وطني واجتماعي، أما الدويلة فإن ارتطامها سيولد مصاعب عديدة وأضراره أشد، كونها البنية السياسية والمساحة الأخيرة في المنظومة الحاكمة، وهي عقائدية صلبة من الصعب أن تلين، لذلك تصبح عوامل انكسارها صعبة ومؤذية لها ولغيرها. وفي لحظة ارتطامها ستترك تداعيات سلبية ستزيد من صعوبة  إعادة تركيب الكيان.

أغلب المؤشرات تؤكد بأن الدويلة لن تساوم وستبقى تراوغ حتى الحظة التي ستخسر فيها القدرة على المناورة. وهي تشهد الآن تصدعات كبيرة داخل جمهورها العام وبيئتها الخاصة، فقد بدت التحديات أكبر من إمكانياتها، ولكنها ترفض الإعتراف بفشل رهاناتها وضعف أدواتها، وفي تقليل الخسائر أو تخفيف سرعة الانهيار أو تخفيف حجم الارتطام. والأرجح أنها سترتطم بحاضنتها الاجتماعية عندما تفشل في الإجابة على أسئلتها المشروعة، خصوصا أنها ستتحمل مسؤولية خاصة كدويلة وعامة كدولة.

في الطريق إلى الارتطام الكبير، لم يعد أي طرف يملك الحد الأدنى من التفاؤل. فالجميع يتملكهم الخوف من العنف المُدبر أو الفوضى المنظمة أو تصفية حسابات عشوائية، أو اغتيالات لترهب العامة أو لإسكات أهل السياسة، ليصبح الجميع أسرى الفوضى. ومن يعتقد أن لديه القدرة على التحكم فيها، سيكون من ضحاياها، لأنها لن تكون محصورة بمكان أو بطرف أو جماعة أو كيان.

مأزق الدويلة أنها لم تدرك حتى الآن حجم الأعباء الكارثية لسقوط الدولة، وأنها مهما احتمت خلف قوتها الخاصة، ستواجه الداخل والخارج من دون غطاء رسمي وحماية شعبية. فبالنسبة لأغلبية اللبنانيين هي متهمة بأنها وقفت بوجه تطلعاتهم نحو جمهورية جديدة، وكل ما فعلته أنها رهنت مستقبل لبنان دولة وشعبا بيدها، وبنت جدارا عازلا بين جمهورها وبين اللبنانيين لتفرض عليهم الإقامة في سجنها الكبير الذي تتوفر فيه المعونة لقلة من التابعين، فيما على الأغلبية التمسك بالصبر والبصيرة.

إذا كان الصبر مفتاح الفرج، فالفرج لن يكون قريبا، والبصيرة تحتاج إلى إقناع الخاص والعام بأنها تملك رؤية مستقبلية قادرة على انتشالهم. وكل هذا لم يعد متوفرا لا في الدولة ولا في الدويلة، وكل ما تبقى هو أن اللبنانيين الصابرين على ما فعلته المنظومة الحاكمة بهم ينتابهم القلق من دعاة البصيرة، الذين تحولوا إلى حاجب يمنع اللبنانيين أن يبصروا النور في نهاية النفق.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.