مقاه في الرباط خلال يوم رمضاني.
مقاه في الرباط خلال يوم رمضاني.

كتب صديقي على فيسبوك منشورا يجمع بين السخرية والذكاء، يقول فيه: "عزيزي الصائم، إذا كانت رؤيتك لشخص فاطر أمامك ستؤذي مشاعرك، إذن فعليك أن تتوقف عن المشي أمام كل إنسان مشلول تراه أمامك، لأنك بكل بساطة ستجرح مشاعره". 

كل سنة في هذه الفترة، يعود في المغرب النقاش حول الفصل 222 من القانون الجنائي، والذي يعاقب عدم الصائمين بالسجن من شهر إلى ستة أشهر. يقول نص القانون: "كل من عرف باعتناقه الدين الإسلامي وتجاهر بالإفطار في نهار رمضان في مكان عمومي، دون عذر شرعي، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر".

أليس من العبث أن ندخل السجن أشخاصا بسبب ممارسة أو عدم ممارسة دينية؟ هل يمكننا أن نتخيل مثلا أن القانون سيدخل السجن كل المواطنين المغاربة الذين أخذوا قرضا من البنك لشراء بيت أو سيارة، بحجة أنهم يرتكبون الكبيرة؟ هل مثلا سندخل السجن عاق الوالدين والمواطن الذي لا يؤدي الزكاة والمواطنة الغنية التي لا تذهب للحج رغم أنها "تستطيع إليه سبيلا"؟

ثم، المواطن نفسه الذي يعتبر أن رؤية شخص آخر يفطر بحضوره خلال رمضان، هو أمر مزعج لمشاعره الدينية، لماذا لا ينزعج إذا كان يصلي وزميله لا يصلي؟ أو إذا كان في المسجد وحوله الناس في المقاهي وفي سياراتهم وفي الأسواق؟ 

لماذا لا ينزعج بتاتا إذا أفطر أمامه أجنبي وينزعج إذا أفطر أمامه المغربي؟ الإشكال إذن لا يتعلق برؤية شخص يأكل بقدر ما يتعلق بممارسة الوصاية على من نفترض أنه مسلم... ما بالنا مثلا بملايين المسلمين الذين يعيشون في أوروبا وأمريكا ويرون طيلة أيام رمضان زملاءهم وجيرانهم يأكلون ويشربون ويدخنون ويعيشون حياتهم بشكل طبيعي؟ لماذا لا تتزعزع قناعة المسلم المغربي في بلجيكا وإسبانيا وتتزعزع في الرباط أو بَركان أو مراكش؟ لماذا لا ينزعج شعوره المؤمن إلا مع ابن بلده؟ لماذا لا ينزعج المسلمون الذين يصومون خارج رمضان (لتعويض أيام لم يصوموها خلال رمضان أو لكسب الثواب والأجر) وهو يرون غير الصائمين يأكلون بشكل طبيعي؟ ألا تتزعزع مشاعرهم إلا في رمضان، وتبقى ثابتة خارجه، حتى وهم صيام؟

أما من يردون بأن لهم زملاء أجانب لا يأكلون ولا يدخنون بحضورهم خلال رمضان احتراما لمشاعرهم، فهذا سلوك جميل وكريم من طرفهم... لكن ما يتجاهله أصحاب هذا التعليق أن هناك فَرقا عظيما بين أن يتصرف الشخص بمحض إرادته (كأن يبارك مسلم لزميله أو صديقه المسيحي أو اليهودي عيدا دينيا خاصا به بل ويحتفل معه به أو يهديه وجبة خاصة بهذا العيد) وبين أن نفرض ذلك بلغة القانون. كأن تفرض القوانين الغربية مثلا، تحت طائلة السجن، الاحتفال بعيد الميلاد على جميع المسيحيين، وأن يعاقب القانون المغربي كل مغربي يهودي لا يحتفل بعيد الغفران (Yom Kippour)... 

كل هذا عبث. لا يمكن أن نفرض الممارسة الدينية باسم القانون. كل ممارسة دينية لا تنبع عن قناعة حقيقية واختيار حقيقي، فلا قيمة لها. أي قيمة رمزية لصلاة أو صيام تقوم به فقط لأنك مجبر ولا اختيار لديك أمام القانون وأمام المجتمع؟ 

علينا أن ننضج قليلا لنقبل بأن الدولة ليس من حقها أن تفرض الممارسة الدينية على الأفراد، بل أن واجبها هو أن توفر للمواطنين حق الممارسة الدينية، وفي نفس الوقت حق عدم الممارسة الدينية إن كان ذلك اختيارهم.
ومع ذلك، فالتغيير سائر في الطريق مهما تعنت المتطرفون وأشباه المعتدلين. من بضعة سنوات، كانت الأصوات التي تطالب بالحق في عدم الصيام أقلية تقابَل بالكثير من العنف. اليوم، لم تحقق بعد مطالبها. لكن الأكيد أن المجتمع، مع مرور الوقت وتعدد النقاشات، أدرك أن هناك فئة من المغاربة لا تصوم رمضان، بل وأصبح يطلق عليها التسميات الساخرة... وغدا، سيقبل (وإن على مضض) وجودها بينه. كل التغيرات المجتمعية الكبيرة عبر التاريخ أخذت وقتا ورفضتها الأغلبية... 

كما أن الأمر في المغرب يتطلب وقتا أكبر أمام تخاذل القوى السياسية المحسوبة على الحداثة، ممن يفترض أن تغير (سياسيا وتشريعيا) هذا القانون... 

لكن المراقبة العميقة والموضوعية لتحولات المجتمع ونقاشاته تنبئ بتغيير عميق... يأخذ طريقه بهدوء!

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.