رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس
"المشروع الفلسطيني برمته يواجه تحولات عاصفة، وسواء أجريت الانتخابات في مواقيتها أم تأجلت لإشعار آخر، أو ألغيت، فإن بقاء الوضع على ما هو عليه غير ممكن"

أسئلة المستقبل الفلسطيني تلوح مع قرب إجراء الانتخابات التشريعية في الثاني والعشرين من شهر أيار المقبل، وفي الصورة تبدو المفارقة واضحة لسلطة جاءت على "ظهر" الثورة فانقلبت على أدبياتها، وأعلنت طلاقها مع قواعد الحكم الديموقراطي، فغُيبت الانتخابات، وظلت تحكم دون تفويض شعبي. 

في تفاصيل الصورة والمشهد تظهر أيضا الحالة البائسة واليائسة التي وصل لها الوضع الفلسطيني بعد سنوات من الصراع على السلطة بين حركتي فتح وحماس، ففسخت البلاد، ورسخت جغرافيا جديدة تفصل بين غزة والضفة الغربية، وأسس لدويلات في واقع الحال لا تحكم من أمرها شيئا دون موافقة سلطات الاحتلال الإسرائيلي. 

بعد 15 عاما على آخر انتخابات أجرتها السلطة الفلسطينية، تنتعش الآمال بمحاولات تجديد شرعية الحكم في فلسطين عبر صناديق الاقتراع، لعل ذلك يكون قاطرة لعودة الرهانات على حل سياسي يُنهي حالة الجمود، ويرفع قبضة الاحتلال بعد سنوات من العزلة عاشتها القضية الفلسطينية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. 

الاستعداد للانتخابات، والصراع المحتدم لم يبعد احتمالات تأجيلها على خلفية منع إسرائيل إجراء الانتخابات في القدس الشرقية خلافا لما نصت عليه اتفاقية أوسلو عام 1993. 

إسرائيل إلى الآن لم تُجب السلطة على طلبها بإجراء الانتخابات في القدس وفق البروتكول الذي عُمل به عامي 1996، 2006، وهي تتجاهل متعمدة مخاطبات الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن، وفي خطوات تصعيدية تقوم باعتقال مرشحين للانتخابات. 

الدور التخريبي الإسرائيلي لا يمكن إنكاره أو تجاهله، فهذا يصب في رغبتها بتعزيز وسيادة الانقسام الفلسطيني وتعميقه، ويعطيها دورا ويدا في تعميق حملة "الردح" والاتهامات في البيت الداخلي لحركة فتح، ويترجم خطتها إلى واقع ملموس أن تظل القيادة الفلسطينية معزولة، لا تتمتع بشرعية الداخل، ولا الخارج. 

من لا يرى هذا الواقع فهو أعمى، ولكن لا يمكن القفز عن أن تأجيل الانتخابات ربما يكون المخرج للقيادة الفلسطينية، ولحركة فتح على وجه التحديد بعد الفوضى وفقدان السيطرة التنظيمية، فهي في وضع لا تُحسد عليه، والانقسام وصل ذروته بعد ترشح ثلاث قوائم فتحاوية رسميا، والانتخابات قد تكون بداية لانهيارها، وفشلها في الاستحواذ على السلطة مجددا. 

بمعزل عن الصراع الفتحاوي الداخلي، والتجاذبات مع حركة حماس، فإن الإعلان عن انتخابات تشريعية بعد غياب طويل، يتبعه انتخابات الرئاسة في شهر يوليو، والمجلس الوطني الفلسطيني في أغسطس، أظهر "عطش" الفلسطينيين للمشاركة السياسية، وتجلى ذلك بخوض 36 قائمة للانتخابات، منها 7 تمثل أحزابا، والبقية مستقلين ومبادرات تحاول التأسيس لواقع جديد. 

في التفاصيل أيضا 29 بالمئة من المرشحين نساء، و38.5 بالمئة ممن يخوضون الانتخابات لا تزيد أعمارهم عن 40 عاما، والأهم أن ما يزيد عن نصف من سيصوتون ستكون هذه تجربتهم الأولى في صناديق الاقتراع، وسيكون لتوجهاتهم الدور الحاسم. 

من يتابعون الانتخابات ويرصدونها لا يتوقعون أن تحصد قائمة وحدها غالبية مقاعد البرلمان -نصف زائد واحد- مهما تمتعت بالقوة، واليقين أن تشكيل أي حكومة قادمة بعد الانتخابات سيحتاج إلى ائتلاف بين القوائم، واستنادا لهذه المعطيات فإن حركة حماس المتماسكة والأوفر حظا لن تستطيع التفرد بالحكم، وكل التقديرات تُشير إلى أنها لن تتجاوز مقاعدها نصف ما حصدته في انتخابات عام 2006. 

استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخرا في الأراضي الفلسطينية تعطي الأفضلية لقائمة حماس والتي تحمل اسم "القدس موعدنا" ويقدر حصولها على 30 بالمئة، وقائمة فتح التي تمثل اللجنة المركزية وترفع اسم "العاصفة" قد تحصل على 24 بالمئة، وقائمة فتح بقيادة الأسير مروان البرغوثي، وناصر القدوة، وترفع شعار "الحرية" ربما تحوز 20 بالمئة. 

تفسخ حركة فتح والتمرد على قرارتها، وتصاعد الاتهامات التي لا حدود لها أكثر ما يلفت الانتباه في هذه الانتخابات، وهو مؤشر بالغ الوضوح على تململ وانقلاب وشيك على سلطة الرئيس محمود عباس "أبو مازن". 

إشكالية فتح لم تعد محصورة بتمرد القيادي المفصول، محمد دحلان، الذي يخوض الانتخابات بقائمة المستقبل وفي طليعتها سمير مشهراوي، وسري نسيبة، وإنما الأخطر، وصاحب دلالة رفض الأسير مروان البرغوثي الانصياع لأوامر فتح ورئيسها عباس، وخوض الانتخابات مع القدوة متحديا وكاسرا لخطوط حمراء كثيرة. 

للانتخابات التشريعية مفاعيلها واستحقاقاتها، وأبرزها أن البرغوثي سيخوض انتخابات الرئاسة في مواجهة محمود عباس، والاستطلاعات تُعطيه تقدما واضحا وبفارق شاسع، وهذا يعني أن الرئيس أبو مازن في خطر، وفي وضع حرج. 

البرغوثي، إن فاز في الانتخابات، سيُكرس سابقة لرئيس دولة يقبع خلف قضبان السجن، وهي حادثة ربما لم يعهدها المجتمع الدولي، وستضع إسرائيل في مأزق، وستخلط كل الأوراق. 

خليل الشقاقي، مدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية، يجيب عن سر شعبية البرغوثي بالقول: "مناضل مؤمن بالحل السياسي بلا تهور، وبلا تخاذل، وشديد الإيمان بالوحدة الوطنية المستندة إلى المقاومة، وشخص يقاوم الفساد وغير قابل للإفساد، وكان ينظر له الشعب الفلسطيني حتى في حياة ياسر عرفات كخليفة له". 

متفائلون يرون أن انقسام حركة فتح ليس نهائيا، هذا الكلام يتساوق مع دعوات سابقة لإطلاق أكثر من قائمة فتحاوية معلنة، وغير معلنة، تعبر عن فتح كتيار سياسي وليس حزبا أيديولوجيا، وما بعد الانتخابات تتوحد وتتفق فيما بينها ومع تيارات أخرى لتشكيل حكومة في مواجهة حركة حماس. 

التحليلات تأخذ مسارات وتكهنات لا حدود لها، وهناك من يطرح ويروج لسيناريو آخر يشي إلى اتفاق غير معلن بين فتح (قائمة اللجنة المركزية) مع حماس، وأنهم بعد الانتخابات سيشكلون حكومة وطنية، ويقطعون الطريق على جميع خصومهم ومخالفيهم، والخطوة التي تليها فوز أبو مازن بانتخابات الرئاسة، فحماس لن تُزاحمه وتنافسه عليها، مقابل دور وصدارة في قيادة المجلس التشريعي، وحضور وازن وقيادي في المجلس الوطني الفلسطيني. 

في كل هذه التحليلات والمقاربات لا يجري التكهن بدور قوائم الشباب، والمستقلين، وأصحاب المبادرات الغاضبين من السلطة، وحماس، وكل الهياكل التنظيمية القديمة التي تآكلت وشاخت ولا تزال تحكم قبضتها على مصير الفلسطينيين وأحلامهم ومستقبلهم، والشعار الذي رفعه المُحتجون في شوارع لبنان مطالبين برحيل كل الطبقة السياسية "كلن يعني كلن" ينطبق على الحاضر الفلسطيني. 

المشروع الفلسطيني برمته يواجه تحولات عاصفة، وسواء أجريت الانتخابات في مواقيتها أم تأجلت لإشعار آخر، أو ألغيت، فإن بقاء الوضع على ما هو عليه غير ممكن، واستمرار السلطة على حالها كحاجز صد يمنع ويحول دون انفجار الصراع والصدام مع سلطات الاحتلال بات مستحيلا، وبقاء السلطة كلها أصبح على المحك. 

الانتخابات، إن تمت، قد تكون مفتاحا لحل سياسي، أو مقدمة لمواجهات وحرب تُعيد التذكير بقضية شعب ما زال يخضع حتى الآن للاحتلال الوحيد الباقي في العالم. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.