تقاطع - طريق سريع - لقطة جوية
"لا يستوعب مجمل الشارع العربي تجليات الحرية التي قد تظهر في رد جدلي، رافض، قاس، ساخر، بل وقد يصل لأن يكون استهزائياً كذلك. كل هذه صور لحرية الرأي وإن ساءت أساليبها"

حتى تعيش آمناً نوعاً ما في هذا العالم الشرق أوسطي الغريب، لابد أن تملأ فمك ماءً طوال الوقت إذا كنت مختلفاً، إذا كنت متسائلاً، أو إذا كنت، وبكل بساطة، تشغّل عقلك وتفكيرك إلى ما هو أبعد من "ما وجدنا عليه آباءنا".

في مجموعات الواتسآب الكثيرة، يرسل الأصدقاء والصديقات والأهل والأحبة رسائل كثيرة، أحياناً تكون سمجة، أو لحوحة، أو غاية في التواضع المنطقي، إلا أنه إذا كانت هذه الرسائل ذات موضوع ديني، فإنه يستوجب على الآخرين عدم الرد تشكيكاً، دع عنك سخريةً، وعدم التداخل اعتراضاً، فنحن "مجتمع محافظ وهذه عاداتنا وهذا الصح المقبول عندنا" كما تشير عليّ محاوراتي أحياناً حين أعترض أو أرد.

هناك معادلة يعلمها الجميع ويجب أن يلتزم بها الجميع: ذو الخطاب الديني له أن يقول ما يريد، مهما بلغ تواضع كلماته أو سذاجة موضوعه أو استحالة حكايته، أن يرسل أدعية ليلاً نهاراً، أن يسرد قصصاً ما أنزل الله بها من سلطان، أن يحكي روايات خيالية عن تائبين مهتدين للدين الإسلامي طبعاً، أما "من يقابله" فليس له ذات الحقوق ولا يمكنه أن يطالب بذات الحريات ولا مجال له أن يفضي بكل المكنون، فهو لا يقع تحت طائلة الحكم المجتمعي القاسي "أعور الحريات" فقط، لكنه كذلك يقع تحت طائلة قانون "أبكم العدالة" تتسلط نصوصه على من يتحدث بالمنطق المدني الحديث وتتراجع مواده عند من يشهر سيف الحجة الدينية، عند الأول شديد العقاب وعند الثاني غفور رحيم. 

لكن أن يقر "بقدرية" هذا الوضع المشوَّه أستاذ شريعة في الجامعة، فهذا مستوى جديد من غرابة الحوار. في مجموعة واتسآب، بعث الأستاذ مقالاً منتشراً منذ فترة عن تائبة تركت طريق الليبرالية "الشائن"، فامتنعت عن سماع الموسيقى، وهجرت كل كتب العلمانية والليبرالية وعلم النفس التي كانت تقرؤها، ووجدت طريق التدين الذي وجهها للحجاب وقراءة القرآن.

وهي في خضم سعادتها ورضاها، تنصحنا الأخت من خلال مقالها بالتمعن قبل أن يقلبنا الغرب الشرير، الذي حول النساء لراقصات، ولا أعلم لم تحديداً راقصات، ضد ديننا ويبعدنا بكتابات كفاره عن الطريق القويم.

بدوري، باركتُ للدكتور هداية الأخت التائبة، ليقوم هو سريعاً برمي الملاحظة المعتادة الحاضرة دوماً لمواجهة أي نقد بأن "الليبراليين العرب" لا يحترمون الحريات. في فهم الأستاذ الدكتور، كما في فهم معظم مجتمعاتنا بكل أطيافها حديثة العهد بالمفاهيم الليبرالية المعاصرة، الحرية هي "ون واي ستريت"، ذات اتجاه واحد لا استدارات على امتداد شارعها مهما امتد طوله، هي تتجلى في أن تقول رأيك، ولا يعارضه أو يناقشه أو يسخر منه نقداً أحد.

لا يستوعب مجمل الشارع العربي تجليات الحرية التي قد تظهر في رد جدلي، رافض، قاس، ساخر، بل وقد يصل لأن يكون استهزائياً كذلك. كل هذه صور لحرية الرأي وإن ساءت أساليبها. فإذا كان العموم العربي يستاء من ويرفض الصور المختلفة لمفهوم الحرية، فماذا عن درجة استياء ورفض المحافظين المتدينين منه؟

أشار الدكتور إلى "مرارة الليبرالية الشرقية"، على حد تعبيره، التي تبدت حموضتها بالنسبة له في نقدي لرأيه وللمقال الذي نَقَلْ، معلناً إعجابه بالليبرالي الغربي" لأنه يعتبر "كلامي من حرية التعبير المقدسة."

لا أدري كيف تعديتُ أنا على حريته بمجرد تعليقي الناقد على مادته، ولا أدري ما مدى تحمل الدكتور المعجب بالليبرالي الغربي لرأي هذا الأخير، بل ما مدى قدرته على التعامل مع تراكم هذه الآراء في  الكتب التي يكتبها الليبراليون الغربيون انتقاداً للأيديولوجيات الدينية وعلى رأسها الإسلامية، ترى هل كان ليتقبلها محدثي أو يرضى بدخولها لبلده المسلم المحافظ؟ عند المحك تتبدى الحقيقة: إعجاب بالليبرالية الغربية لكن عن بعد، حرية رأي لكن بالكمام، فعند معتقداتنا وديننا، تخرس الليبرالية وتشل يمين الحرية.

ورغم استيعابي لتسلط هذه الفكرة رهيبة الاعوجاج، إلا أنني استغربت، رغم أنها ليست الواقعة الأولى، تمرغ محدِّثي، الذي هو أستاذ جامعي، في أنانيتها، في حقه في إبداء رأيه مع علمه بالحدود المغلظة تجاه الرأي الآخر والذي "يودي السجن بتهم مختلفة أقلها الازدراء" كما بادرته، ليرد هو بأن "القانون هو الذي ينظم حياة الناس، وقدرنا أن نكون في مجتمعات مسلمة، تستمد قوانينها من مبادئ وقيم وأحكام الشريعة الإسلامية".

هو قدرنا، كما يقول الدكتور، الذي لا مفر منه، إلا أنه من غير الواضح نوعية القراءة الشرعية المقدرة لنا، فبكل تأكيد قدرنا الشرعي في الخليج يختلف عن القدر الشرعي في "بلاد الفرس" مثلاً، وتتعدد الأقدار وتكميم الأفواه واحد.

لم يعد هناك الكثير ليقال حين يقر محاورك بأننا نعيش في مجتمع غير عادل، يحكم لصالحه هو دون غيره، ثم يوعز ذلك لقدرية ظالمة تجاه الآخرين عادلة تجاهه هو، فأي رد منطقي يمكن أن يساق هنا؟ يؤكد محدثي أن "من أصول ديننا تحريم الظلم تحريماً مطلقاً. لكن من شأن الناس أن يختلفوا في تفسير الظلم، ويبقى المرجع هو القرآن والسنة وليس الهوى".

ولكن، ومن باب المفهوم الليبرالي الغربي الذي يثير إعجاب محدثي، ماذا عن كتب الآخرين المقدسة؟ ماذا عن مئات الآلاف من الأيديولوجيات المختلفة الأخرى؟ كيف يمكن لأي بشر، بكل ضآلة وبدائية وجهل جنسنا، أن يكون لديه كل هذه الثقة بصحة فكرته هو فقط، دون غيره، وبامتلاكه الحقيقة المطلقة التي تؤهله لرضا القدر عليه ومحاباته له؟

لو أن الحوار استمر أكثر، لوقعت أنا في شرك تهمة ازدراء الأديان، حتى وإن اقتصر حديثي على التساؤل حول مفاهيم العدالة والقدرية التي تبدو دائماً مائلة على هوى واحد، طبعاً مع الإشارة إلى أن تهمة الازدراء تنال ما يوجه للدين الإسلامي فقط، فأنْ تشتم اليهود من على المنابر كل يوم وأن تعلِّم الأطفال في المدارس أن الإنجيل محرف وبالتالي كل الدين المسيحي مزور، تلك أقوال لا تقع تحت طائلة قانون الإزدراء.

ولماذا هذا التمييز؟ هو بالضبط ما أشار إليه الدكتور، هو قدرنا، أن "نبزغ" في بقعة من العالم لا ليبراليين غربيين فيها، بقعة محكومة بكلمة حق مطلقة وموحدة، قائم على تفسيرها وتبيانها وتقديمها مجموعة محددة من البشر تتحصل على صلاحياتها واعتماداتها من مصدر مجهول ولكن يظهر استحقاقها بمظهر معلوم محدد الملامح. وماذا نملك أمام القدر؟ 

قد نملك شيئاً، ولكن كله بثمنه..

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.