فرج فودة
فرج فودة

تخيل أن نختلف في وجهات النظر، وأن تتصاعد حدة النقاش، وأن أقتلك.. وأن يعتبر الكثيرون حولي أنك السبب لأنك كنت مستفزا في كلامك! أنت طبعا لم تضربني ولم تعتد عليّ جسديا.  لكن كلامك كان مستفزا لي ولأبنائي ولجيراني ولأبناء عمومتي وقبيلتي... وبالتالي، فأنت تستحق أن أقتلك!

يبدو السيناريو إجراميا وغير مقبول، من باب الإنسانية والعدل؟ لكن هذا ما يحدث، للأسف، كل سنة بمناسبة الحديث عن الباحث المصري الراحل فرج فودة، في ذكرى اغتياله (8 يونيو\حزيران). 

كيف يعقل أن نعتبر أن شخصا يختلف معنا في الرأي، يعبر عن هذا الرأي... فيستحق القتل؟ ثم، كيف يجد البعض عاديا أن القتيل هو السبب في قتله... "لأن كلامه مستفز"، و"لأنه ملحد"؟

في النهاية، فيم يختلف المبررون الجدد عن قاتليه وعن أولئك الذين نظّروا لقتله في حينه؟ لعل الفرق الوحيد في النهاية أن هؤلاء قتلوا فعليا والآخرون يبررون الجريمة من نفس المنطلق وبناء على نفس الحجج. 

حتى إذا افترضنا صحة المنطق الذي يعتبر أن الراحل فرج فودة كان "ملحدا" وكان "يتهجم على الإسلام وعلى الصحابة" (وهذا طبعا كلام لا يقوله إلا من يعرف فرج فودة بالسماع وليس بالقراءة والمعرفة الحقيقية)! لكن، لنفترض أنه كلام صحيح! أين العدل في أن تعتبر أن من يستفزك بآرائه... يستحق القتل؟

هذا طبعا وهم يعتبرون أنفسهم "مسلمين معتدلين" لا يشبهون الدواعش والمتطرفين. أين الاعتدال حين تبرر جريمة قتل شخص، لأن "آراءه تستفزك"؟ كيف تعتبر نفسك "مسلما معتدلا" وأنت لا تدين جرائم من تعتبرهم متطرفين، اللهم إن كنت، في النهاية، تنهل من نفس منطقهم!

ضمن فئة "المسلمين المعتدلين"، سنجد أيضا من يتساءل بهدوء: "فيم نفعته أفكاره التي أدى حياته ثمنا لها؟"... عجيب جدا أن تسائل القتيل بكل اللغات الممكنة، وأمامك قاتل تعتبره ضمنيا ضحية! 

في النهاية، اعتمادا على هذا المنطق، فإن "فرج فودة كان باحثا متطرفا وقتله إسلاميون متطرفون". يتعلق الأمر إذن بأطواف متساوية في تطرفها! بل لعل الطرف الثاني ضحية إلى حد ما، بما أنه تعرض للاستفزاز من طرف فرج فودة!

لعل هذه مناسبة نستحضر فيها الربط الذي يقوم به بعض "المسلمين المعتدلين" حين يقولون: "كما أن هناك متدينين متطرفين، فهناك علمانيون متطرفون"! هذا كلام صحيح... لكنه يحمل مغالطة ضمنية كبيرة تهدف للمساواة بين طرفين لا يتساويان حتى في تطرفهما. ببساطة، لأن العلماني المتطرف، أقصى ما قد يفعله هو أن يكون مستفزا في طريقة تعبيره عن مواقفه... 

لكن المتدين المتطرف، يقتل ويفجر ويجاهد ويفرض دينه ومنطقه وتصوره على الآخرين. هذا علما أنه بدوره يستفز العلمانيين بكلامه! لماذا ينسى "المسلمون المعتدلون" أن خطاب الإسلاميين بدوره مستفز للعلمانيين وللملحدين؟ فهل سمعنا يوما عن "علماني متطرف" أو عن "ملحد متطرف" قتل إسلاميا لأن الأخير استفزه بكلامه؟ هل يقتل العلماني المتطرف دفاعا عن أفكاره؟ هل يضرب مفطر رمضان (حتى لو كان ملحدا متطرفا) الصائمين لأنهم يستفزون مشاعره؟ هل يفرض العلماني أو الملحد على جاره أن يمارس الجنس قبل الزواج تحت طائلة العنف والتشهير؟... 

هذا (جزء من) الفرق بين "التطرف" العلماني والتطرف الديني... هو بالتأكيد ليس دفاعا عن أي نوع من التطرف لأن التطرف أمر سلبي في جميع الأحوال. لكن المساواة بين هذين التطرفين هي مغالطة كبيرة وأسلوب جديد لتبرير العنف باسم التطرف الديني... مناورة تمكن من تبرير القتل والعنف والإرهاب، بحجة أن "هناك أيضا تطرف علماني". 

لذلك، عزيزي المسلم المعتدل، وأنت تبرر جرائم القتل باسم الدين... تذكر أنك بتبريك وبعدم إدانتك الصريحة، لا تحمل من "الاعتدال" إلا الاسم... والوهم!

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.