اجتماع وزراء الخارجية العرب في تونس
"المفاهيم الليبرالية السياسية والتي تعبر عن نفسها عبر احترام منظومة حقوق الإنسان لا تزال مبهمة في الفكر العربي"

تتوق معظم الشعوب العربية لتأسيس أنظمة ديمقراطية وحكومات عادلة تقوم على احترام حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة، لكن التجارب السياسية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، وباستثناء تونس، تشير إلى مدى صعوبة تحقيق هذا الهدف.

قد تكمن في اعتقادنا أهم التحديات التي تواجه الطامحين لأنظمة ديمقراطية ليبرالية في دول الربيع العربي في أن الكثير من المبادئ الأساسية للديموقراطيات الليبرالية إما غريبة تماما عن مجتمعاتنا وإما معارضة، وأحيانا بشكل صارخ، للدين والثقافة الإسلاميين، إلى جانب انعدام معظم جذور لمفهوم الليبرالية السياسية بعينه في اللغة والثقافة العربية الإسلامية، وهو سبب واضح في استعارة الكلمة كما هي من أصولها الغربية.

وبالرغم من وجود جهود فكرية حثيثة للإصلاح السياسي والديني والاجتماعي إلا أن المفاهيم الليبرالية السياسية والتي تعبر عن نفسها عبر احترام منظومة حقوق الإنسان لا تزال مبهمة في الفكر العربي، بشكل عام.

خذ على سبيل المثال أحد أهم ركائز الليبرالية الديموقراطية، وهي السيادة الفردية والتي تعد أهم ما يميز الليبراليات الديموقراطية على اختلاف أنظمتها السياسية، وهي كذلك حجر الأساس لأي ديموقراطية.

تملي هذه السيادة أن كل فرد من أفراد المجتمع له حريات مقدسة لا يجوز تجاوزها، بل أن مهمة مؤسسات الدولة الأولى هي حماية هذه السيادة. وتشمل هذه الحريات: حرية الفكر والمعتقد والتعبير واختيار شريك الحياة والمهنة وكل ما يخص الفرد. حيث يتمتع بهذه السيادة جميع الأفراد بغض النظر عن عرقهم ومركزهم وتعليمهم أو جندرهم.

مفهوم سيادة الفرد يصطدم في مجتمعاتنا مع شعور بالرعب من مجرد فكرة أن يكون لنصف المجتمع مثلا (لنسائه تحديدا) مثل هكذا حريات. بل إن الكثير من رجال مجتمعاتنا الإسلامية يفضلون قتل قريباتهم على أن يكون لهن حرية اختيار شريك الحياة مثلا أو حرية معارضة أفراد العائلة بأمور تتعلق بمستقبلهن.

سيادة الفرد بشكل عام مفهوم غريب في ثقافات تمنح أهمية أكبر للعائلة أو للقبيلة أو الدين أو حتى المجتمع على حساب الفرد. بيد أنه من المهم أن نتذكر بأن هذا المفهوم، وكغيره من المفاهيم الليبرالية، تطور وفق سيرورات تاريخية وتجارب عميقة، وأحيانا مريرة، وصل بعدها إلى الترسخ والتجذر في التجربة الغربية.

سيادة الفرد تشمل أيضا حرية اختيار الدين والتي تتعارض مع الإسلام وأيضا، وحتى زمن قريب، الأديان السماوية الأخرى. فلا يسمح للأفراد بتغيير دينهم من الإسلام إلى البوذية مثلا. بل أن الفكر الديني يحض وبشكل علني على قتل من يشكك في الدين أو من يغير دينه من الإسلام إلى ديانات أخرى.

وفي أوروبا، وبعد حروب دينية حصدت أرواح الملايين من المدنيين، توصل المفكرون إلى أن كل فرد وحده مسؤول عن خياراته وقراراته وليس لأي شخص أو مؤسسة حق في إجباره على دين أو طائفة ما أو على التدين بإطلاق، بحجة إنقاذ روحه من النار. ولهذا تم فصل الدين عن الدولة في الدول التي تطبق مبادئ الليبرالية، حيث تسمح حيادة الدولة بعدم فرض أي أيدلوجية دينية محددة كما تسمح بتعددية دينية وثقافية.

من الحقوق المضمونة ضمن السيادة الفردية أيضا حق المشاركة السياسية وحق اختيار التمثيل السياسي. فمعظم الدول العربية لم تعرف قط انتخابات نزيهة تضمن حرية المشاركة السياسية وحرية الاختيار للممثلين، بينما لا تضيع الأنظمة العربية أي فرصة لسلب مواطنيها هذه الحريات، وتقوم أنظمتها التعليمية ومؤسساتها الإعلامية على شيطنة هذه الحريات ليل نهار.

فمهمتها الأولى التأسيس لشعوب مسلوبة الإرادة تعي فقط مفهوم الطاعة والخنوع. وأمام عدم وجود وعي عربي يقدس هذا الحق ويعمل على التأسيس له، يبقى العنف والتهديد الأسلوبين الوحيدين للبقاء في السلطة.

إن المساواة بين جميع الأفراد بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو جندرهم هي أيضا من الحقوق المضمونة في القوانين، وضمنها المساواة بين المسلم والكافر مثلا أو بين الرجل والمرأة.

في الكثير من الدول العربية التي لا تزال تعمل بقوانين الشريعة، لاتزال المرأة مسلوبة الإرادة وبحاجة لما يسمى "ولي أمر" بغض النظر عن السن أو درجة التعليم. كما أن مفهوم التعددية أيضا مرتبط بالمساواة رغم الاختلافات على أطيافها. غير أنه يصطدم بالإيمان بتميز الإسلام عن الديانات الأخرى والتي يعتبرها المسلم باطلة.

فالتعددية تسلب جميع الأديان فوقيتها وتجعلها على قدم المساواة أمام القانون وللأفراد حق الاختيار بينها أو عدم اختيار أي منها وهذا حقه المضمون في القوانين. أما الاقتصاد فهو أيضا ركيزة مهمة للدول التي تطبق الليبرالية الديموقراطية حيث يعتبر الازدهار الاقتصادي للمواطنين من واجبات الدولة. حق المشاركة في الاقتصاد مرتبط هو الآخر بالمشاركة السياسية بحيث تتكامل هذه الحقوق في المحصلة لخلق منظومة تحمي حقوق الإنسان وتوفر له بيئة تسمح بالازدهار الاقتصادي. 

 إذا تعمقنا في التفكر في هذه المبادئ ندرك أهمية تجذرها في الوعي كمطلب أول لبناء ديمقراطيات ليبرالية، كالتي يخاطر شبابنا بأرواحهم للعيش فيها.

غير أن الدول العربية تموه في التعاطي مع هذه المبادئ عبر تعيين نساء في مراكز هامة أو بإرسال نساء وأفراد من أقليات دينية مسيحية أو يهودية كسفراء للخارج لإعطاء الانطباع بأنها دول تحترم حقوق الانسان وتمارس المساواة فيما لا يستطيع بعض هؤلاء الأفراد في بلادهم، النساء منهم مثلا، توقيع عقد زواجهن بدون ولي أمر بغض النظر عن العمر ومستوى التعليم أو تمرير الجنسية لأطفالهن كما هو حال الذكور من المواطنين. وبينما تشارك بعض هذه الدول في هذا التمويه الديموقراطي تسحب الجنسية عن الالف من مواطنيها لتعارض رغباتهم السياسية مع سياسات الأنظمة الحاكمة.

هذه المبادئ وإن كان العمل بها لا يزال في حاجة لجهود حثيثة، حتى في الدول التي تحترمها وتعمل بها، باعتبارها أسمى ما أنتجه الفكر الإنساني من حيث العدالة والإنصاف واحترام حقوق الأفراد بغض النظر عن الاختلافات بينهم.

حتى الإسلاميون أنفسهم، والذين يحلمون بإقامة دول إسلامية تقليدية أمثال بن لادن والخميني اختاروا دولا تحترم حرية التعبير والرأي ليطلقوا منها آراءهم ورغباتهم في تدمير الغرب الكافر وإقامة دول إسلامية.

فقد كان أسامة بن لادن يبعث الفاكسات من لندن لإعلان الحرب على الغرب فيما اختار الخميني باريس ليمارس اختلافه السياسي. وهذا التناقض لا ينطبق فقط على المتطرفين، بل أن أغلب من يتوقون للهجرة إلى الدول الغربية التي تطبق هذه المبادئ لا يسمحون بها في دولهم، لأنهم يعتبرونها معارضة لثقافاتهم ودينهم.

لم يستطع حزب الإخوان المسلمين أن يصرح أنه كان سيسمح بولاية المرأة أو غير المسلم في مصر رغم وجود عشرة ملايين مسيحي في مصر، وحتى لو قام الشعب بأكمله بانتخاب امرأة أو غير مسلم أو كليهما. هذا لأن المنظومة الإسلامية السياسية ترى في ذكورها فوقية على الآخرين.

إن شرح واستيعاب هذه المبادئ في الضمير العربي قد يكونان حجر الأساس لتغيير مستقبل المنطقة. بالرغم من عدم وجود جذور لهذه المبادئ في الثقافة العربية، فعلينا أن نعي بأن هذه المبادئ نفسها حديثة حتى على الدول التي تطبقها اليوم والتي بالرغم من عملها بهذه المبادئ، لا تزال تواجه تحديات في التطبيق كما يحصل مع الأقلية الأفريقية في الولايات المتحدة. ومن البواعث الداعية على الأمل أيضا المناقشات الثقافية الحادة التي تحدث بين الشباب على مواقع التواصل الإجتماعي، مثل موقع كلوب هاوس.

في نفس الوقت تدل قدرة تونس على تمرير دستور يقوم على المبادئ العالمية لحقوق الإنسان، ويضمن الحريات الفردية، بما فيها، مثلا، حرية المرأة باختيار شريك حياتها بغض النظر عن دينه، سابقة تاريخية ودليلا على قدرة العالم العربي على إنجاز ما يبدو مستحيلا.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.