كنيسية في سوريا
كنيسة في سوريا

يتفرّد الروائي السوري فواز حداد بخاصّية حرصه على "دمشقيته" بشغفٍ متعمّد ودأبٍ واضح. دمشق التي يحبها ويحفظ ملامحها كوجه أمه، ليست مكاناً حاضراً يشارك بحيوية في تقاسم البطولة، أو خلفية تراقب الحدث الروائي في معظم إنتاجاته الغزيرة فقط، بل تبدو كهاجس وجداني أقرب إلى إحساسه بالمسؤولية التاريخية، بأنها تحمّله الأمانة لقراءتها كل حين، ورصد تحولاتها وتحولات حيوات قاطنيها الكبرى، ومن ثم حفظ الأمانة في روح السرد.

في روايته الجديدة "يوم الحساب" الصادرة مؤخراً عن دار الريّس في بيروت، لايخرج حداد عن هذا الشغف، ويخصص فصلاً كاملاً للحديث عن معنى الوطن، في حوارية موجعة وكاشفة يتبادل فيها الصديقان ذكرياتهما وهواجسهما ورؤيتيهما المتباينة حول معنى وواجب البقاء في البلد رغم كل مصاعب العيش والمعاناة، أو الرحيل عنه بعد أن صار "غير قابل للشفاء".

"إذا كنت أريد الهجرة، فإلى بلد لايملكه أحد، ولايتنازع عليه متدينون وكفار، معارضون وموالون، بلد هو للجميع، وليس ملكاً لأحد. أن أبرأ من كل هذا الجنون عن العلوية والسنّية والشيعية والدرزية والكردية". بهذه الكلمات يلخص حسان السنّي موقفه أمام سومر العلوي، ويذكره بشقائه المستمر بصفته مطلوب أمنياً، يتخفى في جحرٍ منذ سنوات، ويتنقل بذعر ببطاقة شهيد ما زال حياً في السجلات الرسمية.

يطرح صانع العمل سؤاله العريض عن جوهر الصراع في سورية، تاركاً للقارىء استشفاف الإجابة بنفسه من خلال مسح طبقي-محوري معمق لسنوات الصراع العشر الفائتة، يتخفى فيه الراوي خلف شخصياته القليلة والمحددة التي تصنع الحدث العام، فيستنطقها كما هي، بحسب دورها ووظيفتها في الفضاء الروائي، تاركاً لها حرية التعبير والاستفاضة بأريحية، دون التحيز أو الاصطفاف مع أو ضد أحدها.

البحث عن جورج أيقوني، سيكون العمود الفقري الذي يبنى عليه هيكل الرواية، وهو طالب يدرس في فرنسا، سيكتشف أهله أنه ترك دراسته وعاد إلى سوريا سراً قبل ست سنوات للالتحاق بالثورة قبل أن يختفي أثره. وهي قصة وإن اختلفت في سرديتها وبعض تفاصيلها الخاصة، إلا أنها ستعيد للذاكرة القصة الحقيقية للطالب باسل شحادة الذي تخلى بدوره عن منحة "فولبرايت" لدراسة الإخراج السينمائي في أميركا وتسلل إلى مدينة حمص وقتل فيها سنة 2012.

مهمة معرفة مصير الشاب المسيحي لن تكون سهلة أبداً، سيتحمل مسؤوليتها الراوي بذاته لدوافع إنسانية وفضولية روائية تساعده على نسج قصته بإحكام ودقة. ولأجل تنفيذ هذه المهمة، سيُحمّل كآمرٍ للسرد، جميع شخصياته المعنية مباشرة بالحدث أو العابرة له مسؤولية متابعة هذه المهمة التي ستتخذ شكلا درامياً تشويقياً، وستكلف ثمناً باهظاً من قلائد الذهب والماس، والكثير من المجازفة والمخاوف والصلوات وسيل من الدموع.

الكنيسة الكاثوليكية ممثلة بالأب جبرائيل أحد أبرز من سيتورط بهذه المهمة الشاقة، لكنه سيتصدى لإنجازها تحت ضغط عاطفي تعذيبي من أم الشاب المتورط في" ثورة المسلمين"، وبدافع إيمانه الحقيقي الذي يفرض عليه واجب الإخلاص لتعاليم سيده "المخلص" ونصرة رعايا الكنيسة حتى لو كانوا "ضالين".

سيمتطي الروائي سُرُجَ مخيلته السردية، ويتخفى برشاقة تحت الرداء الكهنوتي يتنقل معه بين مكاتب بعض النافذين في السلطة من حاملي "الملفات" الحساسة في الأقبية العميقة، أو أصحاب الياقات المنشّاة الجدد. سيكون" أبونا" عين الروائي ودهشته، يضيّعه تارة بين مفهوم "النظام" وتارة بين معنى "الدولة". يقحمه في متاهتيهما دون رحمة، ثم يورطه في تداعيات خطيرة وفائض من الأسئلة الشائكة التي تطال السياسة والأديان والهويات والتعايش والثورة والحرب والإرهاب، وكل أزمات البلاد والعباد.

مهمةٌ ستعيد فتح ملفات مضنية تفانى رجل الدين المسيحي لطيّها أو تناسيها، تبتدىء بجهوده السابقة والشاقة تجنيب الكنيسة التورط في ما يجري، وكل حروبها القديمة ضد المارقين والملحدين.
ومحاولات أسلمة المسيحيين كما دعا ميشيل عفلق "المسيحي البعثي الهرطوقي"، أضف إلى خيبة الأمل الأكبر في الغرب في علاقته مع مسيحيّ الشرق، واصفاً الغربيين بأنهم " لم يمدوا يد العون إليهم إلا لأنهم يريدون إخلاء مهد المسيحية من المسيحيين، وإبطال قداسة مزاراتها، شرق بلا مسيح، أي أرض للنفط، وساحة عمليات للغزاة من الطامعين الخليعين الكفرة".

لم يهدف فواز حداد أن يقدم لقارئه رواية عن رؤى الكنيسة الشرقية والفكر المسيحي والتعمق في تفاصيلهما وهواجسهما بحرفية راهب روائي، إلا كأداة مفتاحية يستعملها كأنموذج للولوج إلى أحد المكونات السورية الأصيلة التي تدرج بخطأ لغوي وفكري تحت مسمى "أقليات"، لنفي هذه الصفة عنها وعن غيرها، وطرح الأسئلة عليها وتركها تعبر بنفسها عن مدى رسوخ جذورها في الأرض، ومدى "تعشيقها" مع باقي المكونات التي تشكل نسيج الفسيفساء السورية العام.

نسيج شامل يعني الكثير في الوجدان والذاكرة الجمعية، يحرص الروائي على حفظه من تفتت الراهن وتشظيه. ينظر إليه بعين المحب بصفته حاملاً رئيساً لمعنى هوية "دمشقيته وسوريته" معاً. يخضعه لامتحانات الانتماء الشاقة في رواية تجرب أن تداوي وطناً برؤيتها المشتهاة، وتدعو لعدم التفريط به حتى لو كان مكسور القلب، وتوثق فصلاً مفصلياً من فصوله الحادة، مفسحة المجال للمنتصرين أن يقولوا كلمتهم فيها، وللمهزومين أن يقروا بهزيمتهم، لكن ببعض الكبرياء.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.