كيرت ويسترغارد أصبح شهيراً في 2005 بعد نشره للرسوم الكاريكاتورية حول النبي محمد
"لقد فهم الغرب هذا الدرس منذ زمن، حين علمتهم الحروب الطاحنة أن الانتصار الأيديولوجي العقائدي هو ضرب من الخيال"

"هلاك الرسام الدنماركي الذي تسببت رسومه بغضب المسلمين"، هكذا قفزت الجملة المكتوبة على أحد المواقع الإنترنتية الإخبارية بغضب وشماتة لتنقل خبر وفاة كيرت ويسترغارد، رسام الكاريكاتير الذي أصبح شهيراً في 2005 بعد نشره للرسوم الكاريكاتورية حول النبي محمد في جريدة يلاندس بوستن.

أعادني الخبر لحوار مضحك دار بيني وبين سيدة دنماركية قابلتها بعد نشر الكاريكاتير ببضعة أسابيع وذلك خلال رحلة بحرية في تايلاند. كانت السيدة تعمل مديرة لمكتب زوجها الطبيب في الدنمارك، وقد بدت على درجة من الثقافة والهدوء ما سمح بتجاذب أطراف حديث بيننا كان أعرج بعض الشيء بسبب عائق اللغة، فقد وقفت إنكليزيتها الثقيلة ودنماركيتي المعدومة عائقاً مضحكاً، وإن أصررنا على معاندته، في وجه تواصلنا. 

سألتني السيدة عن سبب الغضبة العارمة تجاه الكاريكاتير في حوار أسماه زوجي ضاحكاً "حوار الطرشان" حيث أخبرني لاحقاً بعد استماعه لحديثنا كاملاً أننا بدونا من عالمين مختلفين تماماً.

أخبرت أنا السيدة أن الموضوع حساس بالنسبة للمسلمين وشخصي جداً فيم يخص النبي محمد، لتؤكد هي على أن الجرائد الأجنبية تنتقد وتهاجم المسيح طوال الوقت بجدية وبسخرية وأن ذلك أبداً لم يكن ليدفع أحد بغضبة تهديد ووعيد، فحرية الرأي تسبق وتتعدى كل مفهوم آخر.

حاولت أن أفهمها أن نقد نبي الإسلام لا يدخل ضمن حيز حرية الرأي، فشخص النبي يمثل ركناً رئيسياً من الدين، وهو يشكل موضوعاً شخصياً لكل مسلم لا يمكن تعديه، إلا أن صفحة وجهها باهتة التعابير شهدت بضياعها التام عن أي معنى لكلامي.  

وكأن ذلك التغريب بيننا لم يكفِ، تحولت هي لسؤال آخر أكثر تعقيداً وغرابةً مما جعل زوجي يقهقه بصوت عال إبان تحاورنا حوله، فقد سألت هي بهذه الكلمات تحديداً التي لا يمكن أن أنساها لفرط طبيعيتها وغرابتها في آن: "إذاً إذا كنتم تعتقدون التصرف خطأ، ماذا كنتم تتوقعون من الدنمارك؟ ما يمكنها أن تفعل؟" بدت مباشرةُ وطبيعيةُ السؤال غريبةً، فإجابته البديهية بالنسبة لي جعلت نقلها لشخص لا يرى هذه البديهية مطلقاً فعل غاية في الصعوبة.

حاولت أن أَصف لها توقعات العالم العربي، أن الناس تصورت أن تتخذ الدنمارك إجراء ضد الجريدة، أن يتم إغلاقها، أن يحاسب رسام الكاريكاتير، أن يتدخل رئيس الوزراء، إلا أن ضياعاً وتشوشاً قويين ظلا معلقين بقسمات وجهها.

لم تستطع السيدة فعلياً فهم معنى ما أقول، بقيت تسألني: كيف يعني تتدخل الحكومة؟ ماذا يستطيع أن يفعل رئيس الوزراء لجريدة؟ كيف يمكن معاقبة الصحافة؟ بدونا من عالمين مختلفين، لربما من زمنين مختلفين، أنا أحكي عن إجراءات حكومية صارمة تجاه إعلام تَعَوَّدْتُه ممنهجاً، محكوماً، مراقباً، موجهاً، وهي تتحدث عن سلطة رابعة في البلاد لا يمكن حتى لأكبر كبير المساس بها. لقد كان مفهوم تقييد الصحافة وحرية الرأي غريبين تماماً عنها إلى درجة عدم استيعابها لأي معنى أو إمكانية تطبيق للكلمات التي كنت أقولها. كان مشهداً كوميدياً بحق. 

لم يكن تصرف الرسام الدنماركي حصيفاً أو أخلاقياً، إلا أن مبدأ حرية الرأي لا يعتمد حقيقة على حصافة الآخرين أو حكمتهم أو اتزانهم، لا يرتكز على التصرف الصحيح ولا على التأدب في الحوار.

في الواقع، لربما نحتاج مبدأ حرية الرأي في المواقع المضادة لكل هذه المفاهيم، فنحن نحتاج لتطبيق واحترام مفهوم حرية الرأي حين يتخلى الآخرون عن الحصافة والحكمة، وحين يضيع التصرف الصحيح والقول المتزن، وحين يغيب التأدب في الحوار.

فحين يكون الخطاب متأدباً والموضوع متفقاً عليه، لا نحتاج لتفعيل مبدأ حرية الرأي، إنما يتجلى الاحتياج إليه حين يشتد الصراع الأيديولوجي أو السلوكي، وحين يتهدد السلامةَ الإنسانية الاختلافُ في الآراء والمعتقدات التي تشكل الهوية وتحدد الانتماء.

لقد فهم الغرب هذا الدرس منذ زمن، حين علمتهم الحروب الطاحنة أن الانتصار الأيديولوجي العقائدي هو ضرب من الخيال، وأن استمرار هذا الصراع لن يفضى سوى إلى تدمير، إن لم يكن فناء، كل الأطراف.

في شرقنا الأوسط المسكين، لم تصل المعلومة بعد، لذلك ما زلنا نرفع السيوف الخشبية لنحارب بها بقية العالم المتقدم تكنولوجياً وذلك دفاعاً مستميتاً عن معتقداتنا وفرضاً صارماً للصمت عن كل نقد حيالها على كل العالم. ولأن العالم لن يصمت عن النقد الفكري والأيديولوجي في يوم، ولأن سيوفنا خشب وحججنا في إسكات العالم صفيح، فنحن في مكاننا، نصارع طواحين الهواء بصورة مسكينة كوميدية مضحكة.  

أن تنقل جهة إخبارية خبر وفاة بهذه الصياغة التنفيسية الانتقامية، هذا يخبرنا الكثير عن الطريقة التي تفكر بها شعوبنا وتتفاعل من خلالها مع العالم ومعطياته. صحافتنا تمسح لشعوبها الجوخ، وشعوبنا تساهم في خلق رقابة على صحافتنا فوق الرقابة الحكومية السياسية. إلا أن كل هذه الحساسيات والرقابات والاستحرامات والاستحلالات هي ذات اتجاه واحد، لا ترى شعوبنا ككل سواه ولا تعرف "حقاً" غيره.

صديقتي التي استنكرت بشدة الرسوم الدنماركية واستحسنت "مهلك" الرسام الدنماركي معلقة "إلى جهنم"، هي ذاتها تسمي الأجانب الشوام المقيمين في الكويت "زلمات" والمصريين "مصاروة" وتعلن بلا خفر أن المسيحيين يعبدون إنساناً وأنهم يؤمنون بكتاب محرف وأنهم مهما بلغوا من الورع فهم واصلو النار وبئس المصير.

هي لا ترى تضارباً في نقدها الديني العلني (الذي تقدمه مدارسنا في الواقع لصغارنا في أنحاء العالم العربي) مع مفهومها لاحترام الأديان، فهذا المفهوم في عرفها مطبق على الدين الإسلامي فقط لا غير.

وهي لا ترى خللاً في ممارستها الدينية الورعية مع سلوكها التحقيري للجاليات الأخرى في بلدها ولا تعتقد بخطورة هذه الممارسة على تقييمها الديني الإثابي العقابي، فهي تعتقد أن الخالق مختص بالعبادات، سيسائلها عن صلاتها وصيامها، لكنه بالتأكيد لن يقيّم تصويتها الانتخابي مثلاً أو يأثمها لسخريتها من الجالية المصرية الذين تربطهم باستمرار بجملة "بص حضرتك".

هناك فصل حقيقي ومضحك في عقول العامة عندنا بين العبادات والمعاملات، فلا يرون تناقضاً بين غضبتهم من الكاريكاتير الدنماركي وقبولهم بما يقال على المنابر الدينية من تجريح وإهانة للأديان الأخرى، بين دقتهم في إجراءات الوضوء وتساهلهم في التصويت المنحاز أو في استخدامهم لوساطة للتعدي على حقوق الآخرين أو ببساطة لاستخدامهم كلمة "زلمة" تحقيراً لعرق مختلف. هي حالة فصام فكري لربما ستبقينا في حيزنا العنيف إلى أن "يقضي الله أمراً كان مفعولاً".  

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.