الفنانة المصرية شريهان
الفنانة المصرية شريهان

تعود الفنانة شريهان للساحة الفنية من خلال مسرحيتها الجديدة المعنونة "كوكو شانيل" التي بدأ عرضها على "الشاهد نت" يوم 20 يوليو، وذلك بعد أن ألمحت لهذه العودة من خلال ظهورها في إعلان عُرض في رمضان الماضي، لصالح إحدى شركات الاتصال، لينبئ بأن هذه العودة ستكون استعراضية.

ومسرح الفنانة شريهان، رغم أنه مسرح استعراضي مهم، إلا أنه يبقى مسرحا تجاريا، دراميته ليست أكاديمية وعروضه ليست مجال تحليل نقدي جاد. إلا أنني أعتقد أن هذا العمل الجديد يستحق وقفة تأملية من حيث إنه، في كل جوانبه وطياته، يحمل ملمحا من ملامح وجه ثقافتنا العربية المعاصرة.

ولقد اعتمد العرض بمجمله على عنصر الإبهار، فمن المؤكد أن هذا العرض كلف مبالغ طائلة واستعان بأحدث وسائل التكنولوجيا السمعية والبصرية والتقنية المسرحية.

وحين يكون "الميزان سان" أو المحيط الإخراجي والتصميم الفني المتكامل للعمل على هذه الدرجة من الإبهار والمبالغة، عادة ما يكون ذلك مؤشراً لنقاط ضعف يراد طمسها أسفل الديكور الخلاب، والملابس المبهرة، والتكنولوجيا الخشبية (أي الخاصة بخشبة المسرح).. المتقدمة جداً.

ولقد بدا أن العيب الواضح الذي كان الإبهار المسرحي يرمي لتغطيته كامناً في النص المكتوب. لم يأت مؤلف المسرحية، السيناريست مدحت العدل، بمستوى نصي جديد، رغم كل اللمسات التقنية المكلفة الأخرى التي لم تستطع تغييب ضحالة النص وسطحية الكلمات، سواءً في الحوارات أو الأغاني، مما أفقد المسرحية بعدها الثقافي الأهم وأبقاها معتمدة على بعدها النخبوي تغييباً للمشاهد في مناظر مكلفة مبهرة دون أن يكون لها أساس نصي قويم.

أو ليست تلك هي قصة حياتنا الثقافية العربية؟ إذا لم نستطع أن نجعل العمل متقنا نصياً، نجعله فخماً، "نزغلل العيون" بسكب الأموال الطائلة عليه، فتغيب ركاكة النص في المبالغة والإبهار.

وحيث أنني لست متخصصة في فن الاستعراض المسرحي، تخصصي هو المسرح الجندري الحديث والمعاصر، فأنا غير مؤهلة لتقديم نقد عميق لاستعراضات شريهان، إلا أنه من منطلق كوني مشاهدة عادية، يمكنني القول إن عودة شريهان لخشبة الاستعراض عودة قوية أثبتت هي من خلالها استمرار تمكنها الاستعراضي.

كانت حركتها، رغم أنها أبطأ وأثقل بعض الشيء من سابقتها، متقنة، كان تناغمها مع فرقة الاستعراض محكما، وعلى عادتها، كانت أزياؤها جميلة مبهرة، وأضاف إلى جمالها تخلي شريهان عن البهرجة والزركشات الفظة والألوان الفائضة فيها، والتزامها بالأناقة المطلوبة للشخصية وبما يتناسب وسنها، أي الشخصية، وسن شريهان الممثلة.

ومن الملاحظ كذلك تخلي شريهان عن المبالغة الأدائية والتغنج اللزج الذي كان يلتصق بمسرحياتها السابقة لصالح أداء أكثر جدية وأعمق معنى. لقد أدت شريهان وزملاؤها من الممثلات والممثلين وأفراد الفرقة الاستعراضية الدور المطلوب منهم على أكمل وجه.

ولكن حين يكون النص المكتوب فقيرا، فلا كمية من الإبهار ولا مقدار من المال يمكنهما أن يصلحا ما أفسد الكاتب. وتلك هي المأساة الفنية في عالمنا العربي الحالي: مأساة النص المتقن المفقود. فحتى حيت يتوفر المورد المالي، وحتى حين يتوفر المكان والوقت، وحتى حين يشارك أكبر الممثلين وأهم الاستعراضيين، يبقى النص لسبب ما ضائعاً، سطحياً، بل وفي أحايين كثيرة محشواً بسذاجة. إن أزمة النص تعكس أهم أزماتنا العربية الحالية: أزمة الفكرة وأزمة الكلمة التي تعبر عن الفكرة، وإذا ما تمعنا في نوعية هذه الأزمات، سنجدها طرفاً في كل معضلاتنا المعاصرة، الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية منها. نحن نعاني من ضحالة الفكرة، وحين تكون الفكرة سطحية، ستكون الكلمات المعبرة عنها سطحية كذلك.

كانت نبوءة الفقر النصي والإبهار النخبوي واضحة، فقد أتى إعلان شريهان في رمضان السابق ليقدم ذات المضامين، إبهار استعراضي وأدائي وديكوراتي، وضعف في الكلمات والموسيقى التي فاق فقرها فقر الكلمات المصاحبة لها. وتكررت ذات المعضلة في مسرحية "كوكو شانيل"، حيث إنه، وإن كانت الموسيقى ذات مستوى أفضل بكثير فيها، إلا أنها بمصاحبة كلماتها الضعيفة لم ترق للمستوى المطلوب.

ولقد أتى المشهد الأخير من المسرحية، الذي تقصد منفذو العمل أن يكون شديد الإبهار، ليضفي غرابة على موضوع المسرحية بمبالغته الشديدة. تنتهي المسرحية في مشهد ترتدي فيه شريهان فستانا أحمر حريريا متعدد الطبقات، لنراها لازالت تعمل على ماكينة الخياطة، ثم تسقط فوقها فجأة ميتة، ثم تسحب إلى الأعلى ممدودة اليدين على جانبيها فيما حرير فستانها يتطاير حولها، وذلك مع أغنية "لا أندم على شيء" لإديث بياف.

لا أدري كيف (أو إن) غاب عن صناع العمل تطابق هذا المشهد إلى حد كبير مع اللوحات الفنية التعبيرية للقرن الخامس عشر للسيدة مريم العذراء، لا أتصور أن أحداً شاهد المشهد الأخير ولم يفكر في هذه الإشارة الواضحة، حيث بدا وكأن العمل المسرحي يضفي على الشخصية، أو لربما على الفنانة شريهان بحد ذاتها، هذه الصفة المقدسة، لامرأة غيرت وجه العالم. لقد بدا المشهد الأخير غريبا فعلاً، خارج سياق القصة والنص، أقرب لكونه تحية تعظيمية لشريهان عن كونه تضمين درامي لحدث وفاة شانيل.

لقد بدأ العرض المسرحي بكلمة مكتوبة من شريهان تقول فيها "إنحنائة شكر لعموم المرأة في العالم"، ورغم لطيف المعنى وأهميته، إلا أنه بدا أن "أول القصيدة كفر" مع الخطأ اللغوي الواضح في كلمة "إنحنائة". في عمل مسرحي ضخم على هذا المستوى، يفترض أن تكون اللغة بمفرداتها وقواعدها على رأس الأولويات، ويفترض أن يكون الحوار قائد العمل المسرحي وأهم ما يعرفه ويعطيه وزنه. إنما أزمة هذه المسرحية المكلفة المبهرة هي أزمة ثقافة عالمنا العربي ككل، انخفاض مستوى الكلمة وبالتالي "فقر دم" النص الذي يعبر عن حالة الإنهاك الملازمة لكتاب عالمنا هذا.

قد يشتري المال كل شيء، لكنه لا يستطيع أن يخفي كل العيوب، فمن باب أولى الاستثمار في النص المتقن الدائم عوضاً عن الإبهار البصري المؤقت.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.