حق الاختيار.. متى نحترمه؟
حق الاختيار.. متى يحترمه المجتمع؟

رجل في منتصف الأربعينيات، يستمتع باحتساء كأس نبيذ مع وجباته، ويشرب البيرة في لقاءاته مع أصدقائه.

شابان تزوجا قبل حوالي 5 سنوات، لكنهما قررا عدم الإنجاب لأسباب تخصهما.

شابة في منتصف العشرينيات، أحبت شابا، ومارست معه الجنس، حين اكتشفت أنها حامل، رفض حبيبها أن يتحمل مسؤولية الطفلـة(ة) القادم(ة)، واختارت الفتاة أن تحتفظ به/بها، رغم الصعوبات المادية والاجتماعية والقانونية التي قد تواجهها.

زوجان لم يوفقا في الإنجاب، فقررا التكفل بطفل كان يعيش في مركز للحماية الاجتماعية.

شاب اكتشف ميوله الجنسية المثلية، عانى من عذاب الضمير لسنوات لأنه نشأ في مجتمع يعَلِّمه أن المثلية أقصى أشكال العصيان (رغم أنها ميول طبيعية وليست معصية "اختيارية")، قبل أن يقرر قبول نفسه وميوله في مجتمع لا يتقبله معظم أفراده.

شابة عزباء كانت تحلم بالأمومة، لكنها ترفض في نفس الوقت أن تتزوج لمجرد الإنجاب، فقررت أن تتكفل بطفلة صغيرة تعيش معها أمومتها، دون إكراه مجتمعي، ودون صعوبات الإنجاب خارج الزواج.

شابان متزوجان، لكنهما يفضلان تخصيص أهم جزء من دخلهما للسفر (قبل زمن كورونا)، بدل تأثيث الصالون المغربي باهظ الثمن، الذي يبهر الضيوف.

شاب يتحول من الإسلام إلى المسيحية، وشابة تتحول من المسيحية إلى البوذية.

شابة اختارت نظام تغذية يعتمد على الخضراوات والفواكه والنشويات، ممتنعة عن أكل اللحوم والأسماك بكل أنواعها.

شابة قررت أن تعيش بشكل مستقل عن الأسرة.

شاب اختار التخلي عن دراسة الطب لكي يدرس الفن التشكيلي الذي كان موهوبا فيه.

شابة أخرى تخلت عن كل قناعات دينية، وقررت أن تصبح "لا دينية"

...

قد نستمر إلى ما لانهاية في تعداد حالات متنوعة ومتعددة لأشخاص يشكلون فسيفساء مجتمع يزعجه الاختلاف مهما كان بسيطا، ومهما كان فرديا لا يؤثر على اختيارات البقية.

أن يتناول شخص النبيذ فهو لا يجبر الآخرين على فعل نفس الشيء، أن يختار أحدهم أن يكون نباتيا لا يمنع الآخرين من أكل اللحوم بأنواعها. أن يمارس شخصان الجنس خارج الزواج لا يمنع الآخرين من الاحتفاظ بعذريتهم (الحقيقية وليس المجتمعية) إلى غاية الزواج.

أن يقرر شخص أو زوجان عدم الإنجاب، لا يمنع الآخرين من الإنجاب ومن ضمان استمرار البشرية، لأن البعض يتصور أن اختيار بعض الأشخاص لعدم الإنجاب سيعني انقراض البشرية!

أن يكون شخص مثليا لا يفرض على الآخرين أن يغيروا ميولهم الجنسية، وأن يتحول فرد إلى ديانة أخرى، أو حتى إلى الإلحاد هو اختياره الشخصي، الذي لا يؤثر على تدين الآخرين.

باختصار.. نحن مختلفون، نحن متعددون، لكل منا اختيارات أو ميول أو أسلوب عيش يناسبه أكثر من غيره. فلماذا يسعى البعض إلى أن يجعل منا نسخة مطابقة للأصل، لبعضنا البعض؟  

لماذا يخاف البعض من الاختلاف؟ ومن قدرة عدد من الأشخاص على الاستماع الصادق لاختياراتهم الحقيقية؟ لا لما يمليه عليهم المجتمع؟

في النهاية، ما يطالبك به "مجتمع الجماعة" هو أن تنغمس وسط الآخرين، حتى لو كان الثمن سعادتك الشخصية. ما يطالبك به "مجتمع الجماعة" أن تخنق كل صوت في داخلك يدعوك لاختيار مختلف، أن تخنق ميولك العاطفية والدينية والجنسية والبيولوجية وأن تنفي اختياراتك في الحياة بشكل عام (السفر، مكان الإقامة، الزواج أو عدمه، التغذية، التدين أو عدمه..) في سبيل ألاّ تزعج تصوراته عمّا يفترض أن نكون.

متى سنعي أن الشخص الذي يعيش اختلافه وذاته بحرية، يكون سعيدا قادرا على الإبداع وعلى خلق القيمة المضافة مجتمعيا، اقتصاديا، فنيا، إلخ؟

متى سنتقبل اختلافنا عن بعضنا البعض في الطبيعة والشكل والميول والأهداف وفي تمثلنا نفسه للسعادة؟ متى سنتوقف عن التدخل في اختيارات الآخرين وتحديد ما يناسبهم؟ 

حين نعي جيدا أن المجتمع السليم يتطور حين تتعدد مكوناته، سيمكننا حينها أن نحلم بغد أفضل، يضمن الحق في الوجود لجميع الأشخاص باختلافاتهم واختياراتهم المتنوعة.

حين سنعترف بكل هذه الفسيفساء المختلفة، قد نصنع صورة جميلة بمختلف ألواننا؛ بدل الصورة الوحيدة والموحدة التي يحاول الكثيرون فرضها، باسم "الجماعة"، و"ثقافة المجتمع"، و"التقاليد".. بينما في الحقيقة هي لا تترجم إلا خوفهم من مواجهة ذواتهم وعدم قدرتهم على الخروج عن الصف الذي رسم لهم مسبقا. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.