مظاهرة لمرضى السرطان في لبنان بسبب نقص الأدوية
مظاهرة لمرضى السرطان في لبنان بسبب نقص الأدوية

لبنان بلد المساواة المطلقة!! لا تصدقوني! استمعوا إذن الى الشكاوى المتطايرة من أفواه جميع اللبنانيين من كل حدب وصوب. صحيح أن المواطن يشكو ويعاني، لكن المسؤول يفوقه معاناة، بل إن صوته أعلى في المباراة. رئيس الجمهورية نفسه يتمنى لو أن الاوضاع تتحسن ويشكو الفساد والهدر وتأخير تأليف الحكومات، بالجملة طبعاً، مثله مثل المواطن العاجز وأكثر.  

الوزراء والنواب ورئيس المجلس ، الأزلي هو نفسه، يشكون. المسؤولون من قضاة ومصرفيين وعسكر وإداريين يشكون. حتى المرشد الأعلى للجمهورية، صار يتنافس معهم بالشكوى مما يحصل في البلد. وهو من شدة تأثره ومعاناته مما يعيشه المواطنون الذين افتقدوا كل مقومات الوجود، فباتوا يصطفون في الطوابير بحثاً عن غالون بنزين أو مازوت ورغيف خبز وحتى الماء، ناهيك عن حبة دواء، كالتي صودرت من مخزن الحاج الورع عصام خليفة في العاقبية، وشريك أخو النائب الحزباللوي فنيش وهما من فعاليات حزب الله (لذا وجد له الوزير العذر فمعه ترخيص!!). 

أمام كل ذلك قرّر السيد العطوف أن يبلّ يده للمساعدة؛ فجاهر بأنه سيستورد باخرة "لبنانية" ستشق عباب السبع بحور، على بساط السندباد، وتأتينا بأكسير الحياة. وبغض النظر عن قدرتها على الوصول فعلاً لا قولاً الى ربوعنا العامرة، تفيد التقديرات ان لبنان يستورد سنوياً حوالي 360 باخرة نفط، أقل أو أكثر. لذا عندما تثار ضجة لاستقدام باخرة واحدة او اثنتان كحل لمعضلة الوقود - التي تتسبب بها متلازمتا الدعم والتهريب، وسوء الإدارة، وليس استحالة الشراء - لن نستطيع سوى الظن ان هاتين الباخرتين سحريتين على غرار "القدر السحرية"، الحكاية التي كنت أقصّها لأولادي صغاراً. وهي قِدْر أعطتها عجوز لفتاة صغيرة تبكي جوعاً في الغابة. تلفظ جملة معينة  فتطبخ لها القدر السحرية مهلبية لذيذة. جربت الأم بغياب البنت أن تستخدم القدر وحصلت على المهلبية لكنها نسيت الكلمات السحرية لتوقيفها عن الطبخ. فغرقت البلدة جميعها بالمهلبية ولم تنج الا عندما عادت البنت واوقفت القدر عن الطبخ بكلماتها.  

خوفنا اليوم أن تغرقنا باخرة السيد السحرية بمخاطر وتحديات تفوق فائدتها، فهذه الباخرة ستشكل تحدياً وامتحاناً للأميركيين (شجعهم عليها انسحاب اميركا من أفغانستان) وللإسرائيليين بعد تعثر بروفة الصواريخ، وكسراً لقوانين العقوبات على إيران للضغط باتجاه مباحثات فيينا.  

على الصعيد  اللبناني، تشكل ذريعة الواجب الإنساني هذه عقبة إضافية لمهمة تشكيل حكومة، لأن الرئيس المكلف لن يناسبه، كرجل اعمال صاحب مليارات، أن تكون باكورة اعماله مخالفة القرارات الدولية. خصوصاً بعد بيان الخارجية الايرانية الذي أتحفنا بتعاطفه مع الشعب اللبناني، وسيسرّه بيع نفطه للبنان (وكأنهم فضّلونا على طابور الانتظار المزدحم لشراء نفطهم!!) لكنه اشترط ان تطلب الحكومة ذلك!! كأنه بذلك ينسحب من المبارزة!! 

سألت سيدة على الفايسبوك صاحب المكان والزمان: "جبت من إيران علبنان مئة ألف صاروخ بالسرّ. عم تهرّب عا سوريا ملايين الليترات من المحروقات كمان بالسرّ. ليش بس البنزين والمازوت الإيراني بدك تجيبن بالعلن وعامل كل هالطوشة؟؟؟ كنت أعتبرن سلاح إقتصادي وجيبن بالسرّ، ويا دار ما دخلك شرّ...!!! الطوشة إنعملت حتى تقول حاولنا وما خلونا الإسرائيلي و الأمريكاني". 

لا يمكن إلا ان نفهم ان وظيفة هذه الباخرة خدمة إيران في لعبها على الحافة مع الشيطانين الأكبر والأصغر، ومحاولة لفك الحصار عن الحزب. 

وإلا لماذا استقدام الباخرة الان؟  

هل بسبب ضغط البيئة الحاضنة ومعاناتها كباقي خلق الله!! أبداً، يتحفنا هنا بعض الإعلاميين الناطقين باسم الثنائية الشيعية، ان البيئة تعاني طبعاً لكنها لا تضغط على الحزب ومرشده، وصحيح أن حادثة علي النهري حصلت، لكن الفيديو المسّرب للشبيبة المتظاهرين امام منزل النائب علي عمار مزوّر وغير صحيح. 

لنفرض ان الحزب سمن على عسل مع بيئته ، مم يشكو استيراد النفط من العراق؟ ما الذي يقصده من استيراد باخرة رفع عتب لن تسند خابية أزمة الوقود؟ أليس المزيد من مصادرة قرار اللبنانيين وسيادتهم، أو ربما الدخول الى عالم تجارة النفط؟  

لكن دعنا من كل ذلك فأنا لست خبيرة في شؤون التجارة ولا الاقتصاد. 

ما أقصده هنا هو سؤال المواطنين، والثوار المكتفين بمحاربة الفساد وشيطنة رياض سلامة وممثلي النقابات والتجار، على شاكلة موزعي ومحتكري الادوية والمازوت وأصحاب المولدات والصيدليات والمخابز ومحطات الوقود والسوبرماركت، ومن تشاؤون من جشعين ومصاصي دماء ومعدومي الضمير.   

السؤال الأساسي، ألم يكونوا دائماً موجودين بيننا باحتكارهم ونذالة بعضهم و و و ، فما الذي سمح ويسمح لهم بممارسة فجورهم الحالي؟ أليس انفراط المؤسسات وعدم الثقة بالقضاء والبقاء دون حكومة، إضافة إلى أنهم محميين من حزب الله وباقي الأحزاب والسياسيين!! هل رأينا أحدهم في السجن بعد استعراضات الدهم؟ 

هل تقوم مديرية النفط بدورها الرقابي والتنظيمي للمحطات؟ 

يظل السؤال، لو أدخلناهم السجن، هل سنحصل على حكومة؟ كهرباء؟ دواء؟ هل يتوقف التهريب؟ هل ستسعيد الليرة قدرتها الشرائية فتنخفض اسعار السلع والخدمات؟ هل سيستعيد المودع ماله؟ هل سيقبل صندوق النقد البدء ببرنامج مساعداته؟ 

الجواب كلا. وحده تأليف حكومة تفي بشروط المجتمع الدولي، التي تتفق مع مطالب الثورة التي يتهمها نصرالله بالعمالة لأميركا وتهديد السلم الأهلي الذي يسهر عليه ليلاً نهاراً.  

أما إذا ظل الاصرار على التعطيل قائما، يصبح لزاماً على من جاء به العمل على إقالته لرفع الغطاء عن الحزب الذي فرضه رئيساً ليغطي احتلاله للدولة.  

سمعت من سيدة في إحدى وسائل النقل العام، ان البائع طلب منها 450 الف ليرة ثمناً لقارورة الغاز - كانت بعشرين ألف ليرة من قبل والآن ب 100 الف ليرة- وانها ستخبز على الكرتون والورق وما تلمّه من الزبالة كما في أيام الحرب عندما كانوا أطفالاً ترسلهم الأم للبحث عن ما تشعل به النار على موقد أقيم من حجرين.  

أعرف ان اللبناني تعرّض لما لم يعرفه شعب منذ العام 1975 حتى الآن، وأنه تكيّف وتأقلم ودبّر حاله وأعاد إعمار ما تهدّم مراراً وتكراراً.  

لكن كفى، كفانا تكيّفاً وتأقلماً فائض عن اللزوم. إذا كان لدينا عذر للتأقلم في الحروب العسكرية، فما عذرنا الآن مع الحروب الوجودية التي يشنها علينا أهل النظام متكاتفين متعاضدين؟ لماذا تقبلون رئيساً يجدد الذرائع لمنع تأليف حكومة فوراً يقبلها المجتمع الدولي الذي نشحذ منه المساعدة على طريقة "شحاذ ومشارط"؟ 

كفى خوفاً من تسمية الأشياء بأسمائها؟ جميعكم يهمس ان مشكلتنا حزب الله وسلاحه وهيمنته وحمايته لفرقة الحرامية التي تتفنن بسرقتنا؟ وإذا كان عذر الشيعي، الملتصق بالحزب أنه يستفيد منه، والماروني لا يريد ان يمس بقداسة رئاسة الجمهورية، فما ذريعة وحجة المسيحي من الطوائف الاخرى والدرزي والسني؟ 

إن صمتكم وخوفكم والاكتفاء بتوجيه أصابعكم الى أطراف المشكلة ونتاجها، اي المحتكرين الوسطاء، دون التصويب على المسؤولين فعلاً عن مصائبنا، والمحميين من الحزب الإلهي، سيطيل أمد الموت البطيء. 

لا تستلموا فتنهزمون من الداخل. اذا كانت السلطة الحاكمة تسعى إلى كسرنا لتغيير وجه لبنان، فعلينا نحن يتوقف نجاحها أو إخفاقها. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.