زيارة طحنون لقطر تأتي بعد أيام على لقائه أردوغان
زيارة طحنون لقطر تأتي بعد أيام على لقائه أردوغان

الانسحاب الأميركي من أفغانستان وعودة حركة طالبان الجهادية إلى الحكم، أطلق حراكاً إقليميًا وأمنياً يحضر لمرحلة أقل اعتماداً على واشنطن في المنطقة، وأكثر تعاوناً وفي نفس الوقت تضارباً بين الجوار. 

منذ إعلان الرئيس الأميركي، جو بايدن، نيته الانسحاب في أبريل الماضي والحراك الإقليمي يشهد زخماً على عدة مسارات: السعودية وإيران عبر العراق ؛ مصر وتركيا ؛ السعودية وقطر ؛ السعودية وتركيا؛ تركيا والإمارات؛ الإمارات وقطر. طبعاً، هناك مبررات أخرى لإطلاق هذه المبادرات إنما خروج واشنطن من كابل وبهذا الشكل، عزز هذا التوجه وسرع المبادرات.

ففي الأسبوعين الأخيرين، وفيما كانت واشنطن تجمع عتادها في أفغانستان، وصل مستشار الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد، ضيفاً في أنقره وفي الدوحة وباستقبال رئاسي وأميري في العاصمتين. في الجهة المقابلة كان نائب وزير الدفاع السعودي، خالد بن سلمان، يوقع عقداً دفاعيا في موسكو مع نظيره الروسي سيرغي شويغو.

هذه المبادرات اليوم تستند الى ثلاثة خطوط:

1- التحضير لمرحلة انتقال أميركا من الشرق الأوسط: هذه الفرضية ترى أن أولويات واشنطن باستثناء حماية الاستقرار وأمن إسرائيل ومنع الانتشار النووي، باتت اليوم خارج المنطقة وباتجاه آسيا حيث صعود الصين هو تهديد للقوة الأميركية. هذا يفترض أيضاً إمكانية انسحاب واشنطن من العراق وسوريا كما غادرت أفغانستان. فخطاب بايدن الأربعاء يرفض بالمطلق التدخلات العسكرية التي لا تلبي مصالح واشنطن. 

الانسحاب الأميركي اليوم غير وارد من العراق أو سوريا، إنما النقلة السياسية والاقتصادية الأميركية باتجاه احتواء الصين بدأت بالفعل. وعليه فإن دول المنطقة تتكيف مع هذا الواقع.

2- إعادة الحسابات الأمنية بعيدا عن الدور الأميركي: لا جدل بأن واشنطن هي اليوم اللاعب الأمني الأقوى عالميا والضامن الأبرز لحلفائها في الشرق الأوسط وفي أوروبا. مع ذلك، فإن تجربة أفغانستان، صعود ميليشيا جهادية إلى الحكم تؤرق دول المنطقة وهي دافع أساسي لحوار أمني فيما بينهم. لقاءات طحنون-أردوغان وطحنون-تميم ترسخ هذه المصلحة المشتركة الأمنية بتقوية أعمدة الدولة المركزية ومنع ميليشيات تشبه طالبان أو تغار منها من الصعود خليجيا وإقليميا. 

التنسيق الأمني هو اليوم الحافز الأكبر وراء هذه المصالحات والصفقات التي سترسخ النظرة الأمنية المشتركة من دون أن تنهي المنافسة السياسية والاقتصادية. 

3- الاستعداد لبصمة أميركية أضعف في المنطقة يعني منافسة أكبر بين اللاعبين وتأثيراً أقل لواشنطن. هنا تبرز تطورات تونس كنموذج لهذه المنافسة. 

في هذا الإطار أيضاً، ينعكس تشدد إيران حيال المحادثات النووية وفي تحريك وكلائها في المنطقة. صعود طالبان وبهذا الشكل تفهمه طهران كمؤشر لمدى التنازلات التي قد تقدمها الولايات المتحدة، والأفق اللامحدود للميليشيات والتنظيمات العسكرية. فإيران تتساءل اليوم ماذا يمنع الحوثيين من تكرار تجربة طالبان؟ وماذا يمنع رئيسي من اقتناص تنازلات أكبر في المحادثات النووي كما فعلت طالبان مع الأميركيين في الدوحة؟ 

مشهد ما بعد أفغانستان سيغير معالم الدور الأميركي في الشرق الأوسط. فرض خطوط أمنية حمراء بين اللاعبين تنظر إلى مابعد الوجود الأميركي في المنطقة بدأ بالفعل على وقع تحول أولويات أميركا شرقاً وداخليا. هذا سيزيد حدة التجاذب الإقليمي واستقلالية اللاعبين في رسم الخارطة السياسية والاقتصادية المقبلة للمنطقة رغم تعاونهم الأمني. 
 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.