النظام السوري يرى في هذه الخطوة فرصة لإظهار حسن النية تجاه المجتمع الدولي
هل تعلم الأسد من تجربة ما قبل الثورة والحرب لوقف دعم التطرّف؟

انعطافات ومتغيرات استراتيجية في النظرة للنظام السوري، انعكست في أعمال الجمعية العامة الـ76 للأمم المتحدة هذا الأسبوع، وتحديداً الموقف العربي. 

الرئيس العراقي برهم صالح دعا من منبر مجلس العلاقات الخارجية ليل الأربعاء الدول العربية إلى أن تحذو حذو بغداد في انفتاحها على النظام السوري. "يجب أن تكون لدينا الشجاعة للإقرار بأن السياسة حيال سوريا (منذ 2011) فشلت"، قال صالح، مشيراً الى أن الأولوية هي محاربة التطرف المسلح والاتعاظ من دروس أفغانستان. 

قبل ساعات من خطاب الرئيس العراقي، أكد وزير الخارجية الأردني، أيمن صفدي، أن الدواعي الأمنية والحدودية تفترض على بلاده فتح العلاقة مع الأسد، بعد أن كانت استقبلت بلاده وزير الدفاع السوري علي أيوب الأسبوع الفائت. 

الأردن يلعب أيضا دور وساطة في تقريب وجهات النظر الأميركية-الروسية، وهو نجح نسبيا في الشهرين الأخيرين ومنذ لقاء الملك عبدالله الثاني بالرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض. مصادر موثوقة قالت إن العاهل الأردني كان واضحاً لجهة نقل رسالة للأميركيين بأنه حان وقت تغيير سياستهم حول دمشق والرضوخ للأمر الواقع بأن الأسد باق في السلطة. 

منذ ذلك الوقت والاتصالات الروسية-الأميركية سارية حول سوريا، يقودها مستشار البيت الأبيض، بريت ماغورك. هذا الأسبوع، جلس رئيس الأركان الأميركي، مارك ميلي، لست ساعات مع نظيره الروسي، فاليري جيراسيموف، في العاصمة الفنلندية هيلسينكي. التقارب الروسي-الأميركي تراه الدول العربية ضرورة لتسوية في سوريا. 

هذا الرهان قد يبدو منطقيا للوهلة الأولى، إنما لا تملك روسيا مفاتيح الحل على الأرض، ولو كانت تمتلك مفاتيح أبواب النظام.

من سينزع سلاح الميليشيات الموالية لإيران وغيرها الإسلامي اللون؟ تجربة حزب الله والميليشيات العراقية تثبت أن هذا الأمر غير ممكن من دون ضوء أخضر إيراني غير موجود اليوم. 

طبعاً يمكن ايجاد حل لميليشيات كردية أو تلك التي تدعمها واشنطن عبر ضغط روسي أميركي، إنما هذا لا يقترب من الحل. 

السؤال الآخر هو هل تعلم الأسد من تجربة ما قبل الثورة والحرب لوقف دعم التطرّف؟ سوريا شرعت أبوابها ومطارها أمام الانتحاريين الذين قتلوا أبرياء في بغداد، ومدت ميليشيات موالية لإيران بالعتاد والسلاح وبموافقة الرئيس السوري بشار الأسد. الأسد الابن وعلى عكس الأب تحول إلى الطرف الدنيوي في العلاقة الإيرانية-السورية وذلك قبل الثورة بسنوات. 

في عهد حافظ الأسد لم يكن متاحاً لأي مسؤول من حزب الله أن يزور القصر الرئاسي في دمشق. في ظل حكم بشار الأسد، يحل الأمين العام حسن نصرالله ضيف شرف في دمشق، وطهران هي من يحدد موعد الزيارات وليس العكس. 

جهود أميركا والسعودية لإبعاد الأسد الابن عن إيران انتهت بإنشاء طهران معسكرات في سوريا، فما الضامن بأن روسيا أو أي طرف غير إيران قادر على تغيير المعادلة؟

بايدن الطامح بالخروج من الحروب وعقد الصفقات لم يعد يُصر على رحيل الأسد. وذكره لسوريا في خطاب الجمعية العامة كان متلاصقاً مع بيلاروسيا وبورما، وحيث رضخت واشنطن للأمر الواقع ببقاء لوكاشينكو وعدم العودة لما قبل الانقلاب. 

ما يجري اليوم هو إعادة التطبيع مع نظام الأسد بغض النظر عن نوع وأفق الحل في سورية. فالحد من الخسائر بالنسبة للدول العربية والتقليل من الأعباء الشرق الأوسطية على البيت الأبيض هو كاف للدفع بهذه العربة. 

أما الحديث عن تسوية شاملة في سوريا على مستوى "اتفاق الطائف" في لبنان أو "اتفاق الجمعة العظيمة" في إيرلندا فهذا غير ممكن وغير متوفر ضمن هذه السلة من اللاعبين، وطبقاً لمن يحكم على الأرض.
 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.