تعاملت طهران بحذر شديد مع الحرب الأخيرة في إقليم ناغورني قره باغ. وتحت ضغوط شعبية من مواطنيها الأذر تجنبت إظهار الانحياز لأرمينيا، وقبلت على مضض بوقائع جيوسياسية فرضها انتصار باكو في الحرب الأخيرة سنة 2020، والتي كانت سببا في استعادة تركيا دورها الجيوستراتيجي في منطقة ما وراء القوقاز، على حساب مصالح الأمن القومي الإيراني وتطلعات طهران التوسعية في هذه المنطقة.
في الحرب الأخيرة أيقنت طهران أن موازين القوى لم تعد لصالح حليفتها التقليدية أرمينيا، وأن انتصار أذربيجان سيكون له تداعيات مرهقة على حدودها، لذلك كان خيارها استيعاب الصدمة والتعامل بحذر مع تمدد تركي أذربيجاني في المجال الحيوي المشترك بينها وبين روسيا، نتيجة غض طرف روسي في المعادلة الجديدة وقبول غربي بعد تغير في طبيعة العلاقة ما بين روسيا وأذربيجان من جهة، وروسيا وأرمينيا من جهة أخرى، حيث شهدت العلاقة بين موسكو وياريفان الحليف الأرثوذكسي التاريخي لروسيا في هذه المنطقة فتورا شديدا بعد ثورة ملونة أطاحت برئيس الوزراء القريب من الكرملين، وأتت بآخر يتهم بميول غربية.
ازمة الثقة ما بين طهران وباكو عميقة، وبدأت منذ أن نالت أذربيجان استقلالها سنة 1991، إذ لم تتكيف طهران مع تموضع أذربيجان الجيو-استراتيجي منذ تولي الرئيس السابق حيدر علييف السلطة، الأمر الذي أعاد إنتاج الحساسيات التاريخية بين البلدين، والتي تراكمت منذ اتفاقية كلستان (1813) ومن ثم معاهدة تركمان شاي (1828) ما بين روسيا القيصرية وإيران القاجارية بعد حربين هزمت فيهما إيران على يد روسيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأدتا إلى خروج إيران من جنوب القوقاز وشماله. فبموجب المعاهدتين تنازلت إيران عن أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وداغستان لصالح روسيا وباتت حدود جنوب نهر آراس، واحتفظت بالمناطق الأذرية في الشمال الغربي لإيران حيث تجري الآن مناورة عسكرية لأول مرة منذ 30 عاما.
برغم محاولات طهران استعراض القوة التي تميل لصالحها بمواجهة باكو إلا إن مخاطر التصعيد أو انزلاق الأمور إلى مناوشات حدودية قد تؤدي إلى مواجهة ولو محدودة، يرجح أن تنعكس مباشرة على الداخل الإيراني، حيث يواجه النظام أزمة في العلاقة مع مكوناته، بسبب سوء علاقة المركز بالأطراف، لكنها في حالة الأذر الإيرانيين (28%) من السكان، لا يمكن التعامل معها كأزمة أطراف او مطالب أقليات نظرا لحجم الدور الذي يلعبه الأذريون في إيران، خصوصا في إدارات الدولة ومفاصلها الحساسة، إضافة إلى البازار. ففي الحرب الأخيرة راعت طهران حساسيات مكون يعتبر شريكا أساسيا في تركيبة الدولة، منعا لأي انفجار داخلي قد يؤدي إلى زعزعة استقرار النظام. وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد أن النظام مهما بالغ في تصعيده فإن حساباته الداخلية ستمنعه من اتخاذ قرارات غير محسوبة النتائج.
إذن المسألة في الحسابات القوقازية المتصلة بطموحات إمبراطورية لثلاث قوى متنافسة على هذه المنطقة الحيوية (روسيا تركيا إيران)، تتجاوز أزمة المعابر التي تحدث عنها الرئيس الأذربيجاني الهام علييف الاثنين الفائت، بعدما تمكنت باكو من السيطرة على الطرقات التي تمر من أراضيها إلى إقليم ناغورني قره باغ وإلى إقليم ناختشيفان بمحاذاة الحدود الإيرانية الأرمنية التي سيطرت عليها باكو في الحرب الأخيرة. إذ يؤكد إلهام علييف إنه "في الفترة ما بين 11 أغسطس و11 سبتمبر أحصت باكو 60 شاحنة إيرانية تسير على الطريق"، وهذا ما دفع باكو إلى فرض غرامات على الشاحنات الإيرانية التي تستخدم هذه الممرات البرية للوصول إلى أرمينيا عبر أراضي أذربيجان. ما دفع طهران إلى تحذير باكو بأنها لن تقبل أي تغيير في حدود الدول المجاورة.
يأتي هذا التحذير وسط مخاوف إيرانية من مخطط تركي أذربيجاني للسيطرة على الحدود الإيرانية الأرمنية من أجل فتح ممر بين تركيا وأذربيجان. وهذا عمليا يعني قطع طريق إيران الوحيدة إلى أوروبا عبر الأراضي الأرمنية. لذلك من الطبيعي القول أن أزمة الممرات قد تعيد إحياء صراعات القوقاز التاريخية.