أي مستقبل للفلسطينيين والإسرائيليين؟
أي مستقبل للفلسطينيين والإسرائيليين؟

في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، وفي صحيفة "فلسطين" التابعة لحماس في غزة، كتب كاتبان واحد إسرائيلي والآخر فلسطيني، مقالين يكادان يتطابقان في المضمون، ويرفض كل منهما السياسة الإسرائيلية الجديدة تجاه الفلسطينيين، القاضية بـ "تقليص الصراع"، ورفع مستوى معيشة الفلسطينيين، وتحسين اقتصادهم.

ويتمسك الكاتبان، الإسرائيلي حاغاي العاد والفلسطيني سمير حمتو، ببقاء الأمور على ما هي عليه، لأن ذلك يعني مواصلة الصراع حتى التغلب على إسرائيل.

ومن الأفكار المشتركة بين المقالتين تصور كل من الكاتبين أن موقفهما هو "الجهة الصحيحة" من التاريخ، وأن التاريخ يسير حتميا بالاتجاه الذي يتخيلونه، وأن من يعارض ما يتخيله الكاتبان اليوم سيجد نفسه مخطئا وظالما مستقبلا، يوم لا يصح إلا الصحيح.

وتكمن المفارقة في أن العاد ينتمي إلى أقصى اليسار الإسرائيلي، فيما ينتمي حمتو إلى أقصى اليمين الفلسطيني، ويتشارك الاثنان فكرة أن الحل هو إما دولة واحدة من النهر إلى البحر، أو لا حل. على أن هذا الموقف هو الوحيد المشترك بين الاثنين، فالعاد، الناشط في الدفاع عن حقوق مثليي الجنس، قد يجد نفسه هاربا من وجه العدالة لو تحوّلت دولة إسرائيل إلى فلسطين، وذلك بسبب ميوله ومواقفه في المواضيع الاجتماعية والجنسية.

لكن ما سبب رفض أقصى اليسار الإسرائيلي والعالمي، وأقصى اليمين الفلسطيني والعربي، لحل مرحلي مؤقت للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في غياب إمكانية التوصل إلى حل دائم؟

الأرجح أن معارضي "تقليص الصراع" يعتقدون أن أنصاف الحلول تضيّع حقوق الفلسطينيين، وتقلّص في الوقت نفسه الضغط الدولي على إسرائيل للانصياع بشكل كامل إلى الحل كما يتصوره الكاتبان، ويقضي بأن تفكك إسرائيل نفسها وتسلّم مفاتيح الدولة إلى الفلسطينيين، أي على طراز ما حصل في جنوب أفريقيا مع نهاية نظام الفصل العنصري، أو ما حصل، الشهر الماضي، في أفغانستان، حيث تسلم الحكام المحليون، وأن من المتطرفين، الحكم بعد انسحاب الجيش الأميركي من البلاد بعد عقدين من تواجده فيها.

لكن إسرائيل ليست جنوب أفريقيا ولا أفغانستان، بل أن إسرائيل دولة تعترف بها الأمم المتحدة والقانون الدولي وأكثر من 160 دولة في العالم، وهي دولة فيها اليهود غالبية تبلغ قرابة 80 بالمئة. أما الضفة الغربية والقدس الشرقية، فهي موقع جدال، ويصنفها القانون الدولي بمثابة أراض فلسطينية خاضعة لاحتلال عسكري إسرائيلي.

إسرائيل، بدورها، تقول إنها مستعدة للانسحاب من أراضي الفلسطينيين في الضفة (لا احتلال إسرائيلي في قطاع غزة على الرغم من البهلوانيات القانونية والاجتهادات). على أن المشكلة تكمن في أنه لا يمكن لإسرائيل تسليم الأراضي التي تنسحب منها إلى دولة فلسطينية لا تضمن العيش بسلام مع الإسرائيليين، فلا السلطة الفلسطينية قادرة على ضبط الأراضي الفلسطينية في حال انسحاب إسرائيل منها، فيما حماس قادرة على ذلك، ولكنها لا تريد العيش بسلام مع إسرائيل.

ويزيد من معضلة إمكانية انسحاب إسرائيل لقيام دولة فلسطينية مشكلة أن الإسرائيليين، مثل الفلسطينيين، ينقسمون في آرائهم حول كيفية التعامل مع هذه الأراضي، مع ميل يميني للاحتفاظ بها، بل ضمّها، ومنح الفلسطينيين حكما ذاتيا يكون في حالة اتحاد كونفيدرالي مع إسرائيل، في وقت يعتقد يسار الوسط الإسرائيلي أن قيام دولة بموجب تسوية الدولتين هو الحلّ الأمثل الذي يخلّص إسرائيل من معضلة حكمهم فلسطينيي الضفة عسكريا، كما هو الوضع حاليا. أما أقصى اليسار الإسرائيلي، فيتبنى حلولا متطرفة، مثل تسمية إسرائيل بـ "أبارثايد"، والمطالبة بدولة ثنائية القومية من النهر إلى البحر.

الانقسامات، على الجهتين الإسرائيلية والفلسطينية، تعرقل حلول السلام وتطيل أمد الوضع القائم، وهو وضع يفرض بؤسا على الفلسطينيين ويلطخ صورة إسرائيل دوليا. لذا، استنبط بعض الإسرائيليين حلولا وسط هي التي يتبناها رئيس حكومة إسرائيل نفتالي بينيت اليوم، وهي التي يعارضها الفلسطينيون بشبه الإجماع، ويعارضها الإسرائيليون من أمثال العاد.

لكن إلى أن تتغير الأوضاع، ويتغير الرأي العام من الجهتين، لا يعقل أن يبقى الفلسطينيون عالقون في بؤسهم، على غرار فلسطينيي لبنان، الذين أبقتهم العنصرية اللبنانية في مخيمات الشقاء، دون أي حقوق مدنية، على مدى 70 عاما، وواجهت أي دعوات بمنح هؤلاء الفلسطينيين حقوقا للعمل اتهامات ضد الداعين بأنهم يرغبون في توطين الفلسطينيين حتى ينسوا وينسى العالم قضيتهم وقضية عودتهم.

لم يطلب أحد يوما أن يمنح لبنان اللاجئين الفلسطينيين الجنسية اللبنانية، فقط حقوقا مدنية تخولهم العمل والعيش بكرامة ومساواة مع اللبنانيين، دون حقوق ترشح وانتخاب، إلى أن يتم التوصل إلى تسوية لأوضاعهم، إن بعودتهم إلى دولة فلسطينية، أو بإعادة توطينهم في دول أخرى.

ولكن إبقاء فلسطينيي لبنان مثل الأسرى في مخيمات الشقاء، حتى لا ينسوا ولا ينسى العالم قضيتهم، فهو من باب التطرف الذي يتطابق مع ما يدعو إليه السيدان العاد وحمتو.

لا أحد في حكومة إسرائيل اليوم يطالب الفلسطينيين بنسيان مطالبهم أو توقيع أي وثائق للتنازل عن أي شيء. كل المطلوب أن يعيش الفلسطينيون بكرامة، حتى لو من دون حقوق سياسية داخل إسرائيل، ريثما يتغير الزمن وتلوح تسوية نهائية في الأفق ترضي الطرفين.

لكن حتى تلوح أي تسوية في الأفق، وحتى يتغير الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني، من غير الأخلاقي إبقاء الفلسطينيين في الوضع المزري الذي يعيشونه، إن في لبنان أو في الأراضي الفلسطينية، ولا شك أن تحسين أوضاعهم اقتصاديا سيؤدي إلى تحسن معاشهم، على الأقل إلى أن يتغير الزمن ويقدم فرصة تسوية سلمية تامة وقيام دولة كما يشتهيها الفلسطينيون، لا تكون مصدر قلق للإسرائيليين ودولتهم.

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.