العنف، الميزوجينية، البيدوفيليا، النصوص المقدسة التي تدعو للكراهية والإقصاء، الحروب والاستغلال الجنسي والاقتصادي باسم الدين، وغير ذلك من أشكال الظلم، موجودة ووجدت في كل الثقافات والديانات والأزمنة والجغرافيات.   - سناء العاجي
العنف، الميزوجينية، البيدوفيليا، النصوص المقدسة التي تدعو للكراهية والإقصاء، الحروب والاستغلال الجنسي والاقتصادي باسم الدين، وغير ذلك من أشكال الظلم، موجودة ووجدت في كل الثقافات والديانات والأزمنة والجغرافيات.   - سناء العاجي

يقول الخبر: حالات اغتصاب أطفال كان ضحيتها صغار، بالآلاف، في عدد من الكنائس بفرنسا. كانت هذه نتائج كشف عنها تقرير لجنة مستقلة متخصصة في الاعتداءات الجنسية في الكنيسة، تم تقديمه للعموم بتاريخ 5 أكتوبر 2021. 

وتقول التعاليق المختلفة (تتعدد الصياغات ويتوحد المضمون): "لو كان الفاعل رجل دين مسلم، لارتفعت الأصوات لتحتج. لكن الجريمة في الكنيسة، وبالتالي، فلا حياة لمن تنادي".

في الواقع، التعليق الحقيقي والتساؤل الفعلي الذي يجب أن نطرحه هو التالي: هل نحن قادرون، في المغرب أو مصر أو السعودية أو الكويت أو أي دولة من دول منطقتنا، أن نؤسس لجنة مستقلة تبحث بموضوعية في قضايا الاعتداءات الجنسية من طرف رجال الدين المسلمين في المساجد والكتاتيب القرآنية؟ 

اليوم، يكفي أن تبلغ أسرة طفل ضحية عن حالة اعتداء من طرف رجل دين (كما حدث في المغرب منذ بضعة أشهر) ليعتبر الكثيرون أنها مؤامرة تستهدف الإسلام والفقهاء. ويكفي أن يشير الإعلام للموضوع، ليعتبر الكثيرون أن هناك استهدافا للإسلام والمسلمين، ولكي ترتفع بعض الأصوات: "ولماذا لا تتحدثون عن الاعتداءات الجنسية في الكنيسة؟".

بالفعل، الاعتداءات الجنسية التي يكون ضحيتها أطفال في الكنيسة في إيطاليا، فرنسا، الولايات المتحدة الأميركية والعديد من الدول هي حقيقة موضوعية. لكن الفرق أن هذه الحقيقة هي اليوم موضوع أفلام سينمائية كثيرة، وتحقيقات صحافية، وأبحاث لجان مستقلة قد تواجه جميعها لوبيات تسعى لإخفاء الحقيقة... لكن الحقيقة تظهر في النهاية وتناقش في الجرائد والمواقع وعلى بلاتوهات التلفزة. وفي معظم هذه الحالات، حين تثبت الحقائق، تعترف الكنيسة وتقدم اعتذارا. 

لم نسمع أحدا يوما، أمام ثبوت الأحداث وشهادات الضحايا وأهاليهم، يعتبرها مؤامرة من القوقاز ضد المسيحية أو استهدافا من طرف الشرق ضد الكنيسة. 

وهنا الفرق الأساسي والجوهري بين ثقافة تعترف بأشكال الخلل فيها لتتقدم، وثقافة تبحث عن تبرير أخطائها وعثراتها إما بحجة وجود نفس الأخطاء لدى الآخرين، أو بنفي تلك الأخطاء نهائيا واعتبارها استهدافا ومؤامرة. 

العنف، الميزوجينية، البيدوفيليا، النصوص المقدسة التي تدعو للكراهية والإقصاء، الحروب والاستغلال الجنسي والاقتصادي باسم الدين، وغير ذلك من أشكال الظلم، موجودة ووجدت في كل الثقافات والديانات والأزمنة والجغرافيات.  

الذي يحدث أن هناك مجتمعات تقبلت تلك الأشكال من الخلل وسعت لتغييرها وإصلاحها، وبدأت مسار الإصلاح من الاعتراف بأشكال الخلل تلك؛ وثقافات تخاف حتى النظر لنفسها في المرآة.

فهل نحن اليوم قادرون على مواجهة صورتنا في المرآة للاعتراف بتشوهاتها؟ هل نحن مستعدون للاعتراف بأشكال الظلم والعنف والاستعباد الموجودة في النصوص واعتبارها مرتبطة بسياق معين لم يعد صالحا لزماننا؟

هل نحن مستعدون للاعتراف بالاستغلال الجنسي للنساء والأطفال باسم الدين، تاريخيا، عبر السبي والاستعباد وحاليا من طرف عدد من الفقهاء السنة والشيعة؟ هل نحن مستعدون  للاعتراف بالميزوجينية والبيدوفيليا، باسم الدين والتراث والعادات والتقاليد، دون أن نعتبر الأمر مؤامرة غربية؟ هل نحن مستعدون لقبول تقارير لجان مستقلة وصحافيين عن ثروات رجال الدين أو استغلالهم الجنسي للأطفال والنساء أو تشجيعهم للعنف أو غيرها من المواضيع، دون اعتبار الأمر مؤامرة؟ هل نحن مستعدون لمشاهدة أفلام سينمائية عن كل هذه المواضيع دون قتل المخرج والممثلين والمنتج وكل من ساهم في إنجاز هذه الأعمال السينمائية، بتهمة المساس بمعتقدات المسلمين وتشويه الإسلام وزعزعة العقيدة؟

هذه هي الأسئلة التي يفترض أن نواجه بها أنفسنا ونحن نقرأ خبر اللجنة المستقلة التي حققت في الاعتداءات الجنسية التي قام بها رجال الكنيسة ضد أطفال صغار لمدة سبعين سنة. وحين ستكون لدينا القدرة على المعاملة بالمثل مع قضايانا، حينها فقط قد تجوز المقارنات!
 

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.