الملك عبدالله الثاني - الأردن - البرلمان
الملك عبدالله خلال خطاب برلماني (أرشيف)

أنهت لجنةٌ شكلها العاهل الأردني بغرض تحديث المنظومة السياسية أعمالها بعد ثلاثة أشهر من الاجتماعات المكثفة داخلياً ومع فعاليات المجتمع الأردني على اختلاف مرجعياتها، وقد تضمنت وثيقة من 240 صفحة، النتائج الختامية لأعمال اللجنة التي توزعت على مدخل سياسي /تاريخي، وضع مهمة اللجنة في سياقها العام، وحدد أهدافها ومناهج عملها ومعاييره، كما تضمنت مشروع قانون جديد للانتخاب وآخر للأحزاب، وتعديلات دستورية واجبة، وتوصيات لتطوير الإدارة المحلية وتعزيز مشاركة الشباب وتمكين النساء...من يقرأ الوثيقة الختامية، يخرج بخلاصة أنها جاءت بأفضل مما توقعه كثيرون، بالنظر لكبر حجم اللجنة (92 عضواً) التي تضم في عضويتها ممثلين لمشارب سياسية وفكرية واجتماعية متباينة. 

وبخلاف الحال عند تشكيلها، حين واجهت اللجنة عاصفةً من الانتقادات والشكوك بتشكيلها وتفويضها وقدرتها على الخروج بنتائج مرضية، فإن الكشف عن الوثيقة الختامية، لم يحظ باهتمام مماثل، إذ يبدو أن كثيرين يفضلون الانتظار حتى يروا المصائر التي ستنتهي إليها التوصيات ومشاريع القوانين الجديدة عندما يجري بحثها تحت قبة البرلمان. 

وقد لوحظ أن أحزاباً سياسية قائمة، اكتفت بإصدار بيانات تتناول "جزئية" هنا وأخرى هناك، فيما غاب النقاش حول نص سياسي – قانوني أوسع وأعمق وأشمل...فالإسلاميون الذين رحبوا بنتائج عمل اللجنة على وجه الإجمال، كرروا تحفظهم على التعديل المقترح بخصوص المادة السادسة من الدستور، رغم أن التعديل المذكور لم يصل إلى مستوى النص على مساواة النساء والرجال في الحقوق والواجبات، ولم يدع للمناصفة كما نصت عليه دساتير عربية أخرى، ألا أن الإضافة التي جاءت بها اللجنة حول "العدل والانصاف" و"التمكين"، لم ترق على ما يبدو للحركة الإسلامية الأردنية. 

أما الأحزاب اليسارية والقومية، وجميعها أخفقت في الوصول إلى قبة البرلمان في الانتخابات الأخيرة، ولم تحظ مجتمعة على أزيد من 1.4 بالمئة من إجمالي أصوات المقترعين، فقد اكتفت بالاعتراض على نص يطالبها بالتكيف مع "التعقيدات" الجديدة التي وضعتها اللجنة عند تشكيل حزب سياسي جديد، أو لاحتفاظ الأحزاب القديمة بتسجيلها، وهي هنا ألف عضو مؤسس بدلاً من 150 في القانون الساري، ومن ست محافظات من أصل 12 محافظة يتوزع عليها التقسيم الإداري للمملكة...كما أن هذه الأحزاب اعترضت على إقرار عتبة حسم لأول مرة في قانون انتخابي أردني (2.5 بالمئة) من أصوات الناخبين، لإدراكها صعوبة الحصول على  هذه النتيجة في الانتخابات المقبلة على ما يبدو. 

وانفرد حزب واحد (حزب الشراكة والإنقاذ) بتوجيه اتهامات لاذعة للجنة منذ البدء، ومقاطعة أية أنشطة تتعلق بها أو حتى مناقشة نتائج أعمالها، مقترحاً طريقاً للإصلاح، أكثر جذرية، يقفز إلى "الملكية الدستورية" و"الحكومات البرلمانية المنتخبة". 

حصاد اللجنة

اعتمدت اللجنة منهج التدرج في مقاربتها التحديثية (الإصلاحية)، ويمكن وصف مخرجاتها بأنها خطة عشرية للإصلاح السياسي، وهو ما نظرت إليه قوى وشخصيات، على أنه ضربٌ من المماطلة والتسويف والإرجاء، مستندة إلى إرث متراكم من تجارب لجان مماثلة، لم تنتقل مقترحاتها وتوصياتها إلى حيز التنفيذ، وانتهت بانتفاء الحاجة لتشكيلها، سواء كانت حاجة داخلية، أم ناجمة عن ظرف إقليمي ودولي متغير. 

ولم تَكفِ هؤلاء على ما يبدو، الضمانة الملكية التي قطعها العاهل الأردني على نفسه أمام الأردنيين والأردنيات، بتوجيه الحكومة لنقلها إلى البرلمان، كما وردته من اللجنة، دون زيادة أو نقصان، والسهر على ترجمتها كما قال، في كلمة توجيهية ألقى بها في مفتتح أعمال اللجنة، بل والتأكيد على أن ولي عهده كذلك، سيواصل المهمة ذاتها...تجربة التقدم خطوة للأمام والتراجع خطوة للوراء التي ميزت المسار الإصلاحي الأردني طيلة العقود الثلاثة الفائتة، عمّقت فجوة الثقة بين الدولة ومواطنيها، وخلّفت فجوة ثقة بين القيادة والرأي العام، يصعب ردمها بكلمة هنا أو كتاب تكليف هناك، وربما يكون النظام السياسي الأردني بحاجة لما هو أبعد من ذلك وأعمق. 

ومع أنه من الصعوبة بمكانة، مناقشة النتائج الختامية للجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، في مقالة واحدة، إلا أن أهدافاً أربعة لطالما تطلع إصلاحيو الأردن لإنجازها، قد جرى "خدمتها" على نحو متقدم، أقله على مستوى "النص" الذي استبطنته الوثيقة الختامية: 

الأول؛ ويتعلق بتعزيز الهوية الوطنية الجامعة للأردنيين والأردنيين بصرف النظر عن منابتهم وأصولهم وخلفياتهم، في مواجهة "انفجار" الهويات الفرعية الذي تطايرت شراراته في السنوات الأخيرة، وتسبب في خلق حالة من الاستقطاب والتخندق وصراعات لا طائل من ورائها، تنذر بأوخم العواقب. 

الثاني: ويتعلق بالتقدم خطوة جريئة نحو برلمان قائم على التعددية الحزبية والسياسية (البرامجية) بعد ربع قرن من برلمانات "الصوت الواحد" التي عززت الهويات الفرعية والولاءات الثانوية، وأضعفت دور البرلمان السياسي والرقابي والتشريعي، وخلّفت واسعة من انعدام الثقة بين المواطنين ونوابهم، نواب الخدمات. 

والثالث: تعزيز المشاركة السياسية للأردنيين والأردنيات، وبالذات الشباب والنساء منهم، في مواجهة ظاهرة العزوف عن الأحزاب والانتخابات (نسبة الاقتراع في آخر انتخابات لم تصل إلى 30 بالمئة)، وكسر حاجز الخوف من الانخراط في العمل الحزبي، على خلفية "نظرة أمنية" متأصلة معادية للحزب السياسي، وكنتيجة مرة، لسنوات طوال من العمل بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية. 

رابعاً: تفعيل قيم المواطنة الفاعلة وسيادة القانون والعدالة والمساواة والاندماج بين المواطنين، والعمل على "دسترتها" و"قوننتها". 

ويمكن القول، أن "المقدمة السياسية" التي بدأت بها الوثيقة الختامية، وهي لا تقل أهمية علن التوصيات بمشاريع قوانين وتعديلات الدستورية مواكبة، فضلاً عن مشاريع القوانين ذاتها، قد لبّت إلى حد كبير، نظرياً على الأقل، هذه الأهداف، وأن المطلوب اليوم، بعد انفضاض عمل اللجنة، السهر على ترجمتها، وخلق "كتلة وازنة" تقف وراءها، وعدم الاكتفاء بالوعود الرسمية من قبل الجهات الحكومية والأمنية بشق الطريق أمام توصيات اللجنة للسريان والنفاذ. 

فلأول مرة يجري تخصيص 30 بالمئة من مقاعد المجلس النيابي البالغة (138 مقعداً) لقوائم حزبية تنتخب على قاعدة "الأردن دائرة واحدة"، من دون إسقاط حق الأحزاب في المنافسة في الدوائر المحلية، وسيكون الحد الأدنى للتمثيل الحزبي في البرلمان 20 القادم، 41 عضواً، قد يصل إلى 50 أو أزيد قليلاً، وتلكم نسبة غير مسبوقة في العمل السياسي والنيابي الأردني. 

ولقد رافق ذلك، توسيع الدوائر الانتخابية بعد أن كانت المدن /المحافظات الكبرى قُسّمت في القوانين السابقة، إلى دوائر متعددة، فهبط إجمالي عددها من 23 دائرة إلى 18 دائرة فقط، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنه سيجري اعتماد سجل للناخبين بناء على مكان سكن الناخب، وليس مسقط رأسه أو جذر عائلته وعشيرته، كما كان يحدث غالباً، فإن من المتوقع أن يجد الأردنيون أنفسهم، على اختلاف مشاربهم، منخرطون في ورشة عمل وطنية، لإعداد قوائمهم الانتخابية وبناء أحزابهم الكبيرة، وخوض حملات انتخابية لدعم مرشحيهم من شتى الهويات الفرعية. 

لقد أولت الوثيقة، في مشاريع القوانين المتضمنة، وفي شرح أسبابها الموجبة، اهتماماً لمسألة الهوية الوطنية الجامعة، وهو أمر يكتسي أهمية خاصة في ظل انفجار الهويات القاتلة، ويضع الدولة، حال إقرار هذه الوثيقة، في قلب الجدل الدائر لاستنقاذ الهوية الجامعة وتعزيز اللحمة الوطنية وإعلاء مفهوم المواطنة الفاعلة والمتساوية، ومراعاة العدالة في المشاركة والتمثيل. 

وستجلس ثمانية عشرة امرأة على أقل تقدير، على مقاعد المجلس النيابي العشرين، علماً بأن نساء أخريات سيصلن إلى قبة المجلس على متن القوائم الحزبية، حيث خصص مقعد واحد للمرأة من بين أول وثاني ثلاثة أسماء مدرجة على القوائم الوطنية، ما يسمح على الاعتقاد بأن البرلمان القادم قد يضم قرابة 25 امرأة، وفي حال حصل ذلك، سيكون هذا أعلى رقم وأعلى نسبة للنساء في البرلمان في الأردن، وهي خطوة في الاتجاه في الاتجاه الصحيح، على تواضعها، وبرغم أنها ما زالت دون الهدف المرسوم في الاستراتيجية الوطنية للمرأة (30 بالمئة نساء في الهيئات المنتخبة والمعينة). 

لقد تم تخفيض سن الترشح للشباب في الانتخابات النيابية إلى 25 سنة (من 30 سنة في الدستور) وفي مؤسسات الإدارة المحلية إلى 22 سنة، وجرى التنصيص على مقاعد مضمونة للشباب في كل هذه المؤسسات، كما جرى اعتماد حوافز مادية للأحزاب التي تتقدم بنساء وشباب أكثر على متن لوائحها الانتخابية في الانتخابات العامة...ولأول مرة كذلك، تجري ملاحظة الحاجة لتمثيل ذوي الإعاقة، سواء في قانوني الأحزاب أو الانتخاب أو في التوصيات المتعلقة بالإدارة المحلية، وتلكم خطوة في الاتجاه الصحيح، من المأمول أن تنهض بدور الشباب والنساء، وأن تعزز القدرات المؤسسية والتنافسية للأحزاب، وأن تحفز المشاركة السياسية، وأن تكسر حاجز الخوف من العمل السياسي والحزبي، سيما بعد تضمين قانون الأحزاب مواداً جديدة، تجرم التعرض لنشطاء الأحزاب، وبخاصة طلبة الجامعات، وتعيد تعريف الحزب السياسي بأنه يهدف إلى تشكيل الحكومات والمشاركة فيها، ولأول مرة منذ أول قانون سنّ بعد إلغاء الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ (1992). 

أين من هنا؟ 

لا تدور أغلب التعليقات "المتشائمة" أو النقدية حول مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية حول مضمون الوثيقة الختامية وما تضمنته من توصيات ومقترحات، مع أنها لا تخلو من كثيرٍ منها، وكان يمكن أن تكون أفضل من ذلك، أغلب التحفظات والشكوك تدور فرص ترجمتها واستمرار مؤسسات الدولة بالعمل على تنفيذها بكل نزاهة وأمانة، بعيداً عن مختلف أشكال التعدي على الحريات ومحاولات وضع اليد على العمل الحزبي والبرلماني من قبل جهات نافذة في الدولة، وبما يعيد الاعتبار لـ"شرف صناديق الاقتراع"، ويسقط نهائياً نظرية "هندسة الانتخابات". 

ويزيد الأمر تعقيداً، أن مبدأ التدرج الذي اعتمدته اللجنة، تضمن خطة تمتد لثلاث دورات انتخابية قادمة، برلمانية كانت أم محلية، فالبرلمان 20 سيغرف 30 بالمئة من أعضائه من صفوف أحزاب قائمة أو متشكلة، لترتفع النسبة إلى 50 بالمئة إلى في البرلمان 21 و65 بالمئة في البرلمان 22 الذي سينتخب في مفتتح العشرية الرابعة من القرن الحالي، وهي مسافة طويلة في الزمن، لا ضمانة من أي نوع للالتزام برزنامتها وتوقيتاتها...وما ينطبق على الانتخابات البرلمان، ينطبق بالقدر ذاته على تجربة "الإدارة المحلية" التي ستنتقل من "الإدارة إلى الحكم المحلي" وفقاً لنظام "الأقاليم" و"اللامركزية العميقة"، بعد عشرية من السنين كذلك... 

وثمة مخاوف من أن يقظة الدولة الأردنية على الحاجة للإصلاح السياسي، هي يقظة مؤقتة وطارئة، وأن طريق الأردن للديمقراطية باتجاهين وليس باتجاه واحد، وأن عوامل محلية (أزمة الفتنة – الأمير حمزة) ودولية (مجيء إدارة بايدن) أملت السير على هذا الطريق، الذي يمكن العودة عنه، بمجرد انتفاء مفاعليها أو تغيرها...هذه المخاوف لا يمكن تبديدها دفعة واحدة، وبين عشية وضحاها، ولدى الدولة بمؤسساتها المختلفة، وفي أول انتخابات قادمة، فرصة ذهبية لتبديدها، بل ويمكن القول، أن لديها اليوم، وقبل الوصول إلى استحقاق انتخابات البرلمان 20، فرصاَ عديدة، لإقناع الرأي العام، بجدية توجهها الإصلاحي: إشاعة الحريات العامة، إطلاق سراح المعتقلين، وقف التعديات على حرية الرأي والتعبير والصحافة، إعادة نقابة المعلمين المحلولة، وغيرها كثير مما يندرج في سياق إجراءات بناء الثقة واستعادتها. 

لكن على الأحزاب السياسية والنشطاء وفاعلي المجتمع المدني وكافة قوى الإصلاح، إدراك الحاجة لخلق "كتلة تاريخية" وازنة، تقف خلف هذه الإصلاحات، وتحفز مسار الدمقرطة وتحصنه من احتمالات التراجع والانتكاس الوراء...فما حصل خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح، تبنتها الدولة من رأسها إلى مختلف مؤسساتها الأمنية والسياسية، والمطلوب اليوم، الاحتفاظ بقوة الزخم، وجعل التراجع عن هذه التعهدات والالتزامات، أكثر كلفة من الالتزام بها والعمل على ترجمتها...المهم إبقاء القناعة راسخة، بأن كلف الإصلاح أقل بكثير من كلف عدم الإصلاح، والكرة في ملاعب الجميع، وليست في ملعب فريق واحد. 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.