. يعيشون حياة شاقة ويقاسون الخوف من وطأة الجوع الذي يهددهم باستمرار
. يعيشون حياة شاقة ويقاسون الخوف من وطأة الجوع الذي يهددهم باستمرار

أحرص فور وصولي إلى مونريال على زيارة مكتبة Volume. وهي مكتبة متخصصة ببيع الكتب المستعملة. تجد فيها بعض الكتب النادرة أو تلك التي تفتقدها في السوق التجاري. سبق أن وجدت فيها كتباً لطبعات مفقودة ككتب الياس كانيتي أو فردينان تونيس أو نوربير إلياس وإدغار موران وغيرهم. كما اعتادوا وضع كتب أوكازيون في زاوية عند يمين الداخل. وهي كتب يتراوح سعرها من نصف دولار صعوداً حتى خمس أو ست دولارات ونادرا ما يرتفع لأكثر. اعتدت النظر ألى ما يوجد فيها، وغالباً ما وجدت كتباً قيّمة احتاجها وخصوصاً روايات كلاسيكية. وجدت مؤخرا كتاباً صغيراً عليه صورة فوتوغرافية ملونة لبنت صينية صغيرة تفاحيّة الخدّين تستند ألى أمها المحجبة. عنوان الكتاب : Le journal de Ma Yan. ولأني غير مستعدة لاقتناء أي كتاب اضافي لا يلزمني، ولو مجاناً، سألت البائعة عنه: هل هو رواية؟ دعاية للنظام أم ناقد له؟ 

صرخة من قلب طفل محروم من التعليم في الصين | مصدر الصورة: livre.fnac

فكما تعرفون، لم نعد نحتاج مزيداً من كتب البروباغندا الذي أغرقنا بها الاتحاد السوفياتي وصين ماوو تسي تونغ وكتابه الأحمر والقذافي مع كتابه الأخضر. واليوم بروباغندا إيران وحزبها.  لم يكن لديها جواب. قلت آخذه بسعر النصف دولار، وإلا اعيده وأكون تبرعت للمكتبة بنصف دولار.

المفاجأة كانت أنني وجدت كتاباً توثيقياً خاصاً عن بنت صغيرة (13 عاماً) كتبت رسالة أوصلتها الأم بطريقة ما لبعثة فرنسية كانت في الجوار وتضم الصحافي الفرنسي Pierre Haski الذي عمل في ليبراسيون والنوفيل اوبس وغيرهما من الصحف.

وهو أول صحافي أجنبي يصل الى إقليم   Ningxiaالمستقل في شمال غرب الصين، الذي يضم عددا من الاقليات، ومن بينها المسلمة التي تنتمي إليها البنت الصغيرة، بعد Edgar Snow الصحافي الأميركي الذي كان أول من أشار إلى شخص ماوتسي تونغ عام 1930.

كان الصحافي يهمّ بالرحيل من زيارة الإمام المسلم في قرية Zhang Jia Shu عندما تسلم 3 دفاتر صغيرة من قروية ترتدي حجاب المسلمات الأبيض.

بروباغندا الحكومة الصينية تؤكد أن التعليم لمدة 9 سنوات إلزامي لجميع أطفال الصين. لكن البعثة اكتشفت بعد اطلاعهم على محتوى الرسالة المرفقة بالدفاتر، انها بروباغندا فقط. فشكوى طفلة الثلاثة عشر عاماً تخبر كيف أن أمها اخذتها جانباً لتقول إن عليها أن تترك المدرسة. الأسرة تعجز عن دفع السبعين يواناً، كلفة العام الدراسي لها، بالإضافة لأخويها. فقدر الفتيات في هذه القرى النائية ترك المدرسة بعد 3 سنوات تعليم لفك الرموز الصينية البسيطة.

عنونت المراهقة الصغيرة رسالتها:" أريد أن اتعلم". رسالة مكتوبة بغضب، كما تدل شخبطاتها، على ظهر ورقة تشرح كيفية استخدام حبوب الفاصوليا. ولكي تحصل على قلم البيك، الذي كتبت به يومياتها، حرمت نفسها من الطعام لمدة 15 يوماً.

إنها صرخة من قلب طفل محروم من التعليم في الصين كما إنها صرخة كل طفل محروم من التعليم في أنحاء العالم.

تصف البنت الصغيرة حياتهم في الإقليم الريفي الفقير الجاف. يعيشون حياة شاقة ويقاسون الخوف من وطأة الجوع الذي يهددهم باستمرار. يشير الكاتب اننا بذلك نرى الديكور الذي تفضل الصين عدم عرضه للعالم، مكتفية بصورة نجاحاتها الاقتصادية في المدن التي تحدّثت كبكين وشانغهاي. فالصين تخبئ عنا قفا الصورة. "ما يان" تذكّرنا رغماً عنها، ان ازدهار البعض لا يكفي لجر بلد بحاله في أذياله؛ بل انه يحمل خطر خلق فئة من المتروكين لمصيرهم. الأمر الأكثر اجحافاً بالطبع.

ينتمي سكان هذه المنطقة في الصين الحالية الى أفقر الفقراء، المنسيين من "اقتصاد السوق الاشتراكي"، الذي ارتقت منه طبقة وسطى. لكنهم يظلون أفضل حالاً من الإيغور المضطهين فوق فقرهم (انظر مقال1 5\10\2021 عن الايغور في الحرة). مع ذلك لا نلمس لدى "ما يان" وأسرتها أي أثر للمرارة تجاه الصين الناهضة. وكأنهم يعيشون في أزمنة ما قبل الدولة، فيعتقدون أن مصيرهم لا يتعلق إلا بهم. كل طاقتهم موجهة للبقاء أحياء. ولا تفصلهم أي مسافة عن الخطاب اليومي الممجوج كأسطوانة مشروخة لا تنتهي كما لو أنها شريط تلفزيوني دعائي، ينشر القيم الاشتراكية حيث لا يوجد سوى استقالة الدولة.

هذه الشهادة الاستثنائية عن الحياة في منطقة صينية منزوية لمراهقة تعلمت فيما تكتب أن تأخذ مصيرها بيدها عبر كلمات حقيقية تعترف فيها بحرمانها وألمها كما لو انها تخاطب شخصاً آخر في دفتر يومياتها المبتور. فلقد عرفوا فيما بعد أن والدها اعتاد أن يلف سجائره في دفاتر أولاده المدرسية المستعملة.

الفقر في هذه المنطقة جعل سكانها يسافرون لأيام الى منطقة السهوب البعيدة لجمع عشبة fa cai او العشبة الشّعْرَة، التي تعتبر الموضة الرائجة في المطاعم الراقية في هونغ كونغ حيث يبلغ ثمن صحن الحساء الواحد من النبتة الرائجة والتي تفتقد للقيمة الغذائية، 80 يورو (ما يعادل 600 يوان)، لأنها تجلب السعادة!! بينما أجر المياوم الصافي لمن يلتقطها لا يتعدى 17 يوان.

عندما أفاد تقرير أميركي علمي عام 1998 أن العواصف الرملية التي بدأت تغزو بكين وصولا الى كوريا سببها التغير المناخي "بسبب نشاط انساني" جعل مناطق شاسعة جرداء. كان المقصود تلك السهوب، فأصدرت الصين قراراً بمنع جمعها. فتحوّل سكان قرية طفلتنا وما يجاورها إلى خارجين على القانون وملاحقين كمثل مزارعي الحشيشة في البقاع اللبناني. لكنهم مع ذلك يواصلون نشاطهم كي يتمكنوا من البقاء، لاستحالة الزراعة في منطقة تربتها جرداء وتعاني ندرة الماء. فكل بيت يجمع المياه الخاصة به من المطر والثلوج في خزان خاص.

حاولت الأم أن تجد منحة لابنتها، بعد أن سمعت على التلفزيون بإمكانية الحصول على مساعدة "مشروع الأمل" من الدولة للأسر المحتاجة، وفشلت. حينها قررت الأم القيام بالرحلة الشاقة رغم مرضها والأوجاع التي تعانيها. تتغيب لعدة أيام للعمل في جمع fa cai كي تستطيع أن تدفع كلفة متابعة الدراسة لابنتها مع أخويها الأصغر منها. والأم، الشابة في الثلاثينات وتبدو أكبر بكثير، لا تستطيع دفع كلفة الطبابة. فالنظام الصحي في الصين أصبح مدفوع الاجر، بعد أن كانت الطبابة مؤمنة بشكل بسيط بواسطة "الأطباء الحفاة" أيام ماوتسي تونغ. أصبح 36% من الفلاحين عاجزون عن دفع كلفة الطبابة. و61% منهم يتركون المستشفى قبل نهاية العلاج توفيراً للكلفة.

هذا الكتاب صدر عام 2002، وكانت الصين قد أعلنت انها ستؤمن الطبابة المجانية بحلول عام 2010. لا أدري إذا توصلت لذلك في الواقع أم لا.

هذه احدى جوانب الصين التي يريدوننا أن نعتمد عليها ونفتح لها أبواب اقتصادنا ومرافئنا هرباً من "الامبريالية الأميركية".

وقانا الله شرّ الدعايات وأصحابها.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.