العبادة
على المسلمين أن يسلحوا أنفسهم بالعلم والمعرفة والمواجهة الحقيقية مع أنفسهم وتاريخهم والاستعداد لأصعب الأسئلة

تسرني صديقتي دائما حول استيائها تجاه كثرة ما تسمع من نقد للدين ومن التحليلات الجديدة حول فحواه ونصوصه. "لقد أصبحوا يشككوننا في أرسخ القيم التي نؤمن بها. ما عاد هناك مسألة في الدين إلا وتناولوها بالتحليل والتشكك، أليس هناك شيء صحيح وثابت؟" أعلنت هي في جلسة جماعية على إثر نقاش حول ندوة علمية تبحث في تاريخ اسم قبيلة قريش، وكذلك فيديو يبحث في تاريخ مدينة مكة الذي يبدو استشكاليا أحيانا. سألتها إن كانت قرأت في الموضوع أو اطلعت على المادة التاريخية الخاصة به فأعلنت بشيء من الغضب أن "اطلعت بعض الشيء، ولا أريد أن أطلع أكثر، أنا أؤمن بما أؤمن ولن أعطي للغط الدائر فرصة ليؤذيني".

صديقتي ومن هم من جيلي ومن الأجيال السابقة كلنا ضحايا التعتيم والتحريم، كلنا تتنازعنا أنفسنا وضمائرنا وتتعارك بداخلنا قلوبنا وعقولنا لأننا تعلمنا في مدارسنا أن الحق أوحد لا يمكن مساءلته، وأن المنظور أعور بعين واحدة، ولا عين أخرى له، وأن السؤال حرام والتشكك هلاك والتجرؤ على التفكير والتدبر المختلفين إنما هما الطريق إلى النار. في زمننا لم يكن هناك إنترنت يوفر لنا المواد المحجوبة ولا وسائل تواصل تفرض علينا الآراء الأخرى التي تبدو لنا الآن غريبة غير قابلة للتصديق. كانت هناك المَدرسة و"أبلة الدين" التي هي في الغالب ذات منظور طائفي متطرف والبيت الذي يسير أموره على "ما وجدنا عليه آباءنا." كنا جميعاً نعتقد أن التاريخ الإسلامي خط مستقيم مستمر، لا يلف يمينا ولا يسارا، وأن صفحاته كلها ناصعة البياض، وأن "حقائقه" المكتوبة في كتب المنهج وفي المواد المقروؤة المسموح بها هي الحقائق المطلقة التي لا تقبل النقاش. أقل القليل كانت لديهم الفرصة لأن يروا منظورا مختلفا، إما لاختلاف مذهبهم أو لاتساع نادر في دائرتهم الثقافية. المعظم كان لديهم عدسة واحدة مقعرة هي الوحيدة المتاحة للنظر من خلالها في عمق التاريخ.   

لذلك، تجتاح جيلنا التعددية المتوفرة الآن بألم وصراع داخلي، تهاجمنا كأنها غزو جراد لا نعرف كيف نهشه. لقد بدأت البواطن تظهر والكثير من المثالب القصصية والتناقضات التاريخية تطفو، فتترك الكثيرين منا غير قادرين على الرد، عاجزين عن إقناع أنفسنا دع عنك غيرنا، ليس ذلك لضعف في مادة العقيدة ولكن لضعف في تسليحنا بالتنوع والاطلاع والفهم. كل عقيدة في العالم، كل فلسفة وأيديولوجيا، قادرة على الصد عن نفسها لو أن أتباعها ثقفوا أنفسهم وشكلوا مصدات ردودهم. أما العقيدة التي يوصد أصحابها الباب من دون أسئلة وتشككات الآخرين، من دون حتى مواجهة التعقيدات التاريخية والوقائعية والتشريعية الوارد ظهورها في مادة عقيدتهم مع تغير الزمان والمكان، فتلك عقيدة محكوم على أصحابها بالعذاب والانعزال عن الآخرين والشعور المستمر بتآمر العالم عليهم وبتجردهم من وسيلة للدفاع عن أنفسهم. هل يبدو هذا التوصيف مألوفاً؟

وها هو زكريا بطرس، القمص الأرثوذكسي المصري والذي اشتهر بعدائه للإسلام وأتباعه، يعيد ويزيد في كلام يعرف كيف يؤذي به المسلمين ويستثير غضباتهم، وكأنه يستمتع ساديا بإيذاء وتعذيب المسلمين من حوله. إلا أن هناك درسا مهما مستخلصا من كل قبح تعابير ورخص أهداف كلام بطرس، ولربما هذا الدرس ينحصر في جزئيتين: الأولى أهمية استبدال الغضب الانفعالي بالتسلح العلمي والمعرفي للرد والتناظر إذا ما وردت الحاجة، وهذا يتطلب معرفة باستشكاليات التشريع وبتناقضات وقائع التاريخ ومواجهة الأمور الحساسة المؤلمة التي غالباً ما يتفادى المسلمون التعامل معها مستخدمين كمام حرمة السؤال وتبرير أن "للخالق حكمة لا نعلمها ولا نستطيع التساؤل حولها." لم تعد هذه التبريرات ناجعة اليوم، نحتاج المواجهة والبحث وأحيانا الاعتراف بالقصورات والاستشكاليات، لتبدأ عملية التفكيك وإعادة صياغة الحقائق وبالتالي تشكيل الردود وصولاً لراحة نفسية حقيقية مع عقيدة متوائمة مع الزمان والمكان.

وأما الجزئية الثانية للدرس فتنحصر في أهمية الوعي بحجم الألم الذي تسببه حديث بطرس غير النظيف، بحيث ألا يوقعه المسلمون بالآخرين. إذا كانت ادعاءات واتهامات وأسلوب بطرس الرخيص في مهاجمة المسلمين كلها موجعة للقلب ومثيرة لأعلى درجات الغضب والحنق، فمن باب أولى أن يكف المسلمون كذلك أذاهم عن أصحاب الديانات الأخرى، من باب التكافل الشعوري، وألا يوقعوا أذى بآخرين هم ذاقوه وخبروا حجم إهانته وألمه. يجب على المسلمين اليوم التوقف عن مهاجمة الأديان الأخرى، اتهامها بأن كتبها مزورة وبأن أصحابها قردة وخنازير، وبأن أفرادها لا يزيدون عن أن يكونوا ضيوفاً ثقيلين مستوجبي دفع الجزية في الدولة الإسلامية المثالية الموعودة. إذا كنا نتألم من بطرسهم، وللمسلمين كامل الحق في ذلك، فلنلم نحن أيضاً بطارستنا ونوقف السب والتكفير والإعلان المستمر عن إخراج الآخرين من رحمة الله. 

هذا البطرس لن يتوقف، وإذا ذهب سيأتي غيره. فبدلا من إضاعة الوقت في الغضب والحنق، على المسلمين أن يسلحوا أنفسهم بالعلم والمعرفة والمواجهة الحقيقية مع أنفسهم وتاريخهم والاستعداد لأصعب الأسئلة والتشككات والتناظرات، ثم عليهم أن ينتهوا عما ينهون عنه، وأن يرحموا الآخرين مما يؤلمهم ويؤذيهم. لا تغضبوا من فعل ثم تأتونه بحجة أنكم الحق المطلق وغيركم كافر مارق، "عار عليك إن فعلت عظيم".

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.