حكم على أحمد عبده ماهر بالسجن بتهمة ازدراء الأديان.
حكم على أحمد عبده ماهر بالسجن بتهمة ازدراء الأديان. | Source: https://www.facebook.com/ahmed1maher1

أن تكتب أن الرسول كان يعاشر كل زوجاته في غسلة واحدة، وأنه حاول الانتحار. وأن تكتب وتفصل في جواز مفاخدة الرضيعة شرعا، وعن شروط ضرب الزوجة دون ترك علامة على جسدها. وأن تكتب أن الله سيضع ذنوبنا على اليهود والمسيحيين كي يدخلوا النار وكي ندخل نحن جهنم، وأنت لا تسأل حتى تصورك عن الله وعن العدل الإلاهي.  

وأن تكتب تفاصيل مرعبة عن جواز زواج الأب من ابنته التي ولدت من "الزنا"، وجواز ذلك للعم والأخ أيضا، مادامت ليست ابنته شرعا (طبعا، أليست ابنة زنا). وأن تسرد عشرات الأحاديث الضعيفة سندا ومتنا، والتي تهين النساء أو غير المسلمين أو فئات أخرى من المجتمع.

وأن تكتب أن الله يفرض علينا كراهية اليهود والمسيحيين وعدم تهنئتهم بأعيادهم، ويحلل لنا سرقتهم. وأن تدعو على اليهود والمسيحيين في صلاتك وتتمنى موتهم وهلاكهم باسم الدين، بدعوات من قبيل: "اللهم يتم أطفالهم ورمل نساءهم"؛ بل وتؤمن أن الله سيستجيب لك وفق منطق أخرق للعدل الإلاهي.  كل هذا لا يهين الإسلام ولا يشكل أي ازدراء له. 

لكن، أن يكون اسمك المستشار أحمد عبده ماهر وأن تؤلف كتابا ينتقد الفقهاء وتأويلاتهم الدينية المهينة للإسلام، فأنت تستحق السجن لمدة خمس سنوات بتهمة ازدراء الأديان. أنت لا تقذف ولا تهين أشخاصا، ولا تدعو للكراهية ولا للعنف. ولا حتى تهاجم الإسلام كدين أو كتابه أو نبيه. أنت فقط تناقش أفكارا وتأويلات بشرية.. لكن ما تجهله، أن الفقهاء اليوم أصبحوا مقدسين أكثر من الدين نفسه ومن القرآن نفسه.

مشكلتنا اليوم أننا نعيش زمنا أصبح المقدس فيه ليس الله أو الإسلام أو القرآن، بل فقهاء الدين وتأويلاتهم وخطباء المساجد ونجوم البرامج الدينية. لست مضطرا للهجوم عليهم كأشخاص، بل أن مجرد مناقشة أفكارهم قد تأخذك للسجن. 

نفس المسلم الذي يقول لك إن ميزة الإسلام أن ليس به وساطة وكهنوت كالمسيحية مثلا، سيقول لك في نقاش لاحق أنك لا تستطع الحديث في الدين لأنك لست من أهل الاختصاص وأنه يفترض أن تبحث عما يقوله الفقهاء في الموضوع وتطبقه. 

أولوا القرآن نفسه ليناسب تصوراتهم. على سبيل المثال، فإن عددا من الفقهاء يعتبرون أن الله، بقوله "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" (سورة النحل 43)، يتحدث عن رجال الدين والفقهاء؛ بمعنى: اسألوا علماء الدين ليدلوكم على المعاني الحقيقية. بينما، في الحقيقة، تتحدث الآية عن اليهود والمسيحيين، حيث خاطب الله المشككين في الوحي ليطلب منهم، في حالة الشك، أن يسألوا أهل الذكر السابقين: اليهود والمسيحيون. يقول القرطبي مثلا في تفسيره: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم، للدعاء إلى توحيدنا ، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، إلا رجالا من بني آدم نوحي إليهم وحينا لا ملائكة، يقول: فلم نرسل إلى قومك إلا مثل الذي كنا نرسل إلى من قَبلهم من الأمم من جنسهم وعلى منهاجهم (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ). يقول لمشركي قريش: وإن كنتم لا تعلمون أن الذين كنا نرسل إلى من قبلكم من الأمم رجال من بني آدم مثل محمد صلى الله عليه وسلم وقلتم: هم ملائكة: أي ظننتم أن الله كلمهم قبلا فاسألوا أهل الذكر ، وهم الذين قد قرؤوا الكتب من قبلهم: التوراة والإنجيل، وغير ذلك من كتب الله التي أنـزلها على عباده".

حين سندرك أن الأفكار تقارع بالأفكار وليس بالسجن، وأن الدعوة للكراهية أو العنف وحدها تستحق العقاب، وأن من حق أي شخص أن يناقش جميع الأفكار، سنتحول لمجتمعات تعيش عصرها وتعيش الإنسانية بقيمها. 
لكن، لعل الخوف من الأفكار والخوف من العقل والخوف من النقاش والخوف من خطوات التنوير التي أصبح تأثيرها يزداد تدريجيا... هو ما يولد هذا الكم من العنف في التعامل مع المنتقدين.

اسجنوا المستشار أحمد عبده ماهر. لكن أعماله وكتبه ومقالاته وفيديوهاته حاضرة بيننا تستفز العقل وتدعو للنقاش.... سواء اتفقنا أو اختلفنا مع مضامينها.

FILE - A U.S. Marine watches a statue of Saddam Hussein being toppled in Firdaus Square in downtown Baghdad on April 9, 2003…
"حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة صدام اسمك هز أميركا".

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.