ملك الأردن تحدث عن الأحزاب ودور الدول
العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني

قبل التعديلات الدستورية التي قدمتها الحكومة الأردنية، كانت الرهانات الشعبية على أن تحدث مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية إصلاحا، وترسخ المسار الديمقراطي حذرة، ومشكوك بها، ومتشائمة، وبعد التعديلات الحكومية- التي لم تعلم بها اللجنة الملكية- فإن الأجواء السياسية أصبحت أكثر احتقانا، وتعمق الاستقطاب والرفض المجتمعي، وزادت القناعات باستحالة المضي في طريق بناء دولة ديمقراطية في الأردن.

كان السؤال للجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، كيف تريدون إصلاحا والحقوق والحريات في البلاد غير مصانة؟، والسؤال الآن بعد التعديلات الدستورية المثيرة للجدل، كيف تريدون بناء حكومات برلمانية حزبية، وهي لا تحكم، و"حكومات الظل" تملك الصلاحيات الفعلية أكثر من الحكومة والبرلمان؟

ببساطة ويُسر، الناس لا تفهم مبررات التعديلات الدستورية التي تتوسع في إعطاء الملك صلاحيات تنفيذية منفردة بمعزل عن الحكومة، فاسترجاع تجربة الأردن السياسية في العقود الماضية تُظهر أن لا تهديدات للعرش، ولا يُنازع سلطة الملك أحد.

تقدمت اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية بـ 22 تعديلا دستوريا، قبل أن تُفاجئ الحكومة الجميع بالإعلان عن رغبتها بإضافة تعديلات أخرى على عكس تعهداتها بعدم المساس بمخرجات اللجنة، ويُقر رئيس اللجنة الملكية، سمير الرفاعي، أنه لم يكن على اطلاع ومعرفة بتعديلات الحكومة- وإن لم يُعارضها-، ويعتبرها خارج مهام وصلاحيات التكليف الملكي.

التعديلات الدستورية التي قدمتها الحكومة تنحصر في تشكيل مجلس للأمن الوطني والسياسة الخارجية يرأسه الملك، ويضم رئيس الوزراء، ووزيري الداخلية والخارجية، وقائد الجيش، ومدير المخابرات، وعضوين آخرين يُعينهما الملك أيضا، وإعطاء الملك منفردا صلاحيات بتعيين قاضي القضاة، ورئيس المجلس القضائي الشرعي، والمفتي العام، ورئيس الديوان الملكي، ومستشاري الملك، وسبق هذه المقترحات تعديلات في عامي 2014، 2016، أعطت الملك الحق منفردا في تعيين رئيس وأعضاء مجلس الأعيان، وقائد الجيش، ومدير المخابرات، ورئيس المجلس القضائي، ورئيس المحكمة الدستورية وأعضائها.

هذه التعديلات اعتُبرت انقلابا على الدستور، وإنهاءً فعليا لولاية الحكومة وسلطتها، ولا يتردد النائب، صالح العرموطي، تحت قبة البرلمان في وصف هذه التعديلات بأنها انقلاب على مؤسسات الدولة والنظام، ويؤكد أن الدستور في غرفة الإنعاش ويحتاج إلى إنقاذ، ولا يُخالف المحامي، عمر العطعوط، هذا الرأي، ويُفيد بأن التعديلات ستؤدي إلى هدم أركان نظام الحكم في الأردن، والذي ينص على أنه "نيابي ملكي وراثي".

لا يحتاج الملك تعديلات دستورية حتى يحكم في البلاد، ففي أوج المعارضة، والاضطرابات السياسية في العقود الماضية كان الملك هو الرُبان الحقيقي، وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة، ويُعرف الأردن به، ومن خلاله، ومهما كان رئيس الحكومة قويا، فإنه يخضع حكما لسلطة العرش، فالملك يُعين رئيس الوزراء، والحكومة ويُقيلها.

لم تشهد الحياة السياسية منازعة لسلطة الملك، فقد كان معروفا أن الملك هو من يُعين قائد الجيش، ومدير المخابرات، رغم أن النص الدستوري قبل تعديله كان يشترط أن يوشح توقيع الملك بعد تنسيب وتوقيع رئيس الوزراء والوزير المختص.

صلاحيات الملك غير المكتوبة لم تخرقها الحكومات، ولم تقف بالضد منها البرلمانات، وتوسعت في السنوات الماضية ليصبح متداولا وشائعا بين النخب السياسية أن الملك هو من يختار أمين عمّان، ومحافظ العاصمة، وبعض السفراء أيضا.

ولاية الحكومات القصة التي تخضع للجدل منذ سنوات، ويسترجع رجالات السياسة بفخر سيرة رؤساء حكومات كانوا يرفضون أن تُنتقص سلطاتهم، وكانوا يصادمون الملك إن كانت توجهاته وأوامره تخالف الدستور.

دستور الملك طلال 1952 ينظر له الأردنيون بأنه أحد أهم المحطات المضيئة في تاريخ دولتهم التي احتفلت بمئويتها، ويعتبرونه علامة فارقة تؤسس لبناء دولة حديثة ديمقراطية، لولا ما يعتبرونه تعديلات كثيرة "عبثت" بمرتكزاته وبُنيانه.

الملك بموجب المادة 30 من الدستور "رأس الدولة ومصون من كل تبعة ومسؤولية"، وهذا يعني بنص صريح أنه لا يُحاسب ولا يُساءل؛ باعتباره لا يحكم مباشرة، ولهذا فقد أكد الدستور أيضا أن أوامره الشفهية، أو الخطية لا تُخلي الوزراء من مسؤولياتهم، وهو ما يُحصن الحكومة من الضغوط، ويُبقي المساءلة حصريا في ملعبها، ولا يقبل بالتذرع بأوامر الملك أو توجيهاته.

الحال مع التعديلات الدستورية المقترحة حاليا، وما سبقها مختلف، فالملك يُعين منفردا دون إرادة الحكومة، والسؤال والجدل حسب خبراء الدستور، من يُحاسبه على أفعاله؟، والأمر برأيهم يصبح مُثيرا أكثر، وخرقا مكشوفا للقواعد الدستورية إذا ما أقر البرلمان تشكيل مجلس الأمن الوطني والسياسة الخارجية، فهذا يعطيه -أي الملك- تفويضا في بناء سياسات، واتخاذ إجراءات وتدابير متعلقة بالأمن والسياسة الخارجية، وهو حق حصري وأصيل للحكومة.

الدستور ينص في مادته 51 أن رئيس الوزراء، والوزراء مسؤولون أما مجلس النواب مسؤولية مشتركة عن السياسات العامة للدولة، وكل وزير مسؤول أمام النواب عن أعمال وزارته، ويستطيع البرلمان إذا أخطأت أو قصرت الحكومة أن يحجبوا الثقة عنها، ويقيلوها فورا، والسؤال ماذا سيفعلون، وكيف يحاسبون مجلس الأمن الوطني الذي يرأسه الملك إذا خالف إرادتهم، أو ألحق ضررا بسياساته وقراراته بالدولة، آخذين بعين الاعتبار أن الملك مصون من التبعة والمسؤولية؟

السياق الذي قدمته الحكومة لتوسيع صلاحيات الملك في التعيين، وتشكيل مجلس الأمن الوطني، أن ذلك إجراءات احترازية واستباقية قُبيل أن تُشكل الأحزاب الحكومات، وتُريد أن تظل ملفات التعيينات الحساسة (الجيش والأمن والقضاء) بيد الملك، حتى تظل بمعزل عن التجاذبات السياسية، وحتى لا يحدث يوما وتُخطف الدولة لمصلحة أيدولوجيا، أو حزب سياسي في قادم الأيام.

المبررات والسياق تبدو سردية ساذجة، وافتراضات تسقط على أرض الواقع، فحكم الأحزاب الذي بشرت به اللجنة الملكية لن يُبصر النور إذا نجحت التجربة قبل عقد من الزمن، والأمر الآخر أنه في عز الأيدولوجيات العابرة للحدود إبان المد القومي، والناصري، والبعثي، والماركسي، لم تنجح في الانقلاب على الدولة والعرش، واستحضار تجربة حكومة سليمان النابلسي عام 1956 في الوثيقة المرجعية للجنة تحديث المنظومة السياسية، والحديث المُبالغ فيه عن "مخاطر الاستفراد بالحكم"، ومنح الامتدادات العقائدية الخارجية أولوية على الاعتبارات الوطنية، استُخدام من الحكومة كقاطرة وفزاعة لما قُدم من مقترحات لتعديلات دستورية.

رئيس اللجنة الملكية، سمير الرفاعي، في حديثه بالمنتدى الإعلامي لمركز حماية وحرية الصحفيين، اعتبر أن مجلس الأمن الوطني ليس دائما، ولا يجتمع بشكل دوري، وهو موجود للتدخل إذا اقتضى الأمر، واستدعت الضرورة ذلك، من دون الحاجة للجوء للأحكام العرفية، وبلغة أخرى "كرت أحمر" في جيب الملك "الحكم" يُشهره في وجه من يخرجون على قواعد اللعبة السياسية.

لم تُقنعني فلسفة الحكومة في تسويق التعديلات الدستورية، فواقع الحال أن رؤساء الحكومات في الأردن أصبحوا موظفين بدرجة عليا، ويعرف الناس أن مطبخ القرار لم يعد أبدا في الدوار الرابع بدار رئاسة الوزراء، وأن حكومتي الظل في الديوان الملكي والمخابرات هما من تُديران المشهد، ولا حاجة لتعديلات دستورية للحفاظ على ما تبقى من "برستيج" دولة المؤسسات.

لدى الملك أسلحة قوية تُبقي العرش مُصانا سندا للدستور، وهذا ما يُجمع عليه الأردنيون، معارضوه قبل مواليه، فهو يملك حق إعلان الأحكام العرفية بموجب المادة 125 في حال حدوث طوارئ خطيرة، وبالتالي حكما لا يمكن لأي جهة كانت مكاسرة سلطة العرش، أو الخروج عن إرادتها.

الأزمة تتعمق كلما استحوذت السلطة على صناعة القرار بمعزل عن إرادة الشعب مصدر السلطات، وما كان يُسمع همسا أصبح يُسمع علنا في الأردن.. أين يغيب "العقلاء" عن صناعة القرار في الدولة؟!

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.