المثقف والسلطة.. إلى أين؟
المثقف والسلطة.. إلى أين؟

مع أنه يصعب تحديد معنى مثقف، المقصود هنا المفكرون النقديون الذين يمتلكون رؤيا وينشطون ويؤثرون في محيطهم.

كما أن الحديث عن المثقف والثقافة في بلادنا، التي تعاني من العنف والحروب وعدم القدرة على مواجهة التحديات، سواء العالمية او المحلية، يبدو وكأنه من الكماليات، مع أن كثر يتساءلون أين هم المثقفون؟

لكن ينبغي التنويه أيضاً أننا عرفنا مثقفين - نجوما اشتهروا في العالم العربي في مرحلة سابقة خدموا في بلاط السلاطين، وعند أعتى الديكتاتوريات.

لكنني لن أعالج الموضوع انطلاقاً من الوضع المحلي. أمثلتي ستعتمد على تجربة ميشال فوكو وريجيس دوبريه وغيرهما.

في حديث مع فوكو حول السجن، نشر في يونيو عام 1984، سئل هل من الممكن معالجة الامور بشكل مختلف؟ فأجاب: أنه فكر دائماً أن الوضعيات يمكنها أن تولد استراتيجيات جديدة. وأنه لا يعتقد أننا محبوسون في تاريخ، بل العكس كان عمله أن يظهر أن التاريخ تعبره علاقات استراتيجية متحركة وبالتالي ممكن تغييرها. لكن ذلك يتطلب شرطاً، أن يمتلك القائمون على هذه السياقات الشجاعة السياسية اللازمة لتغيير الأشياء.

وعندما سئل هل هو مستعد للعمل مع رجال الحكم الحاليين، اجاب: لو أن أحداً منهم أمسك يوماً هاتفه، وطلب مني لو أن باستطاعتنا نقاش السجن مثلاً أو المستشفيات العقلية، لما ترددت ثانية واحدة.

المشكلة أن أحداً لم يتصل به.

وفي كتابه "السجن الجمهوري" يعبّر روبير بادنتر، وهو كاتب وقاض كبير، عن أسفه لموت فوكو لأنهم فكروا بإقامة لجنة، وأن يكون فوكو عضواً فيها وذلك من ضمن مشاريع معالجة شؤون السجون. الكتاب صدر عام 93، لكن الوقت كان قد فات، إذ أن فوكو كان قد توفي منذ 1984.

وهكذا، إذا كانت الحكومات الفرنسية لم تستفد من فكر شخصية مثل فوكو، فهل سيكون ممكنا أن تستفيد الحكومات اللبنانية أو العربية من مثقفيها، كائنا من كانوا؟

الحاكم يحكم ولا يقرأ، والمثقف يقرأ ويكتب ولا يحكم، فكيف يمكن لهما أن يلتقيا!

يبدو أنه من الصعب أن يكون للمثقف تأثير مباشر على سير الأمور، السياسية وغير السياسية عموماً.

ولنا من تجربة ريجيس دوبريه مثال واضح على ذلك، إذ أنه عمل بعد خروجه من السجن لفترة كمستشار للرئيس ميتران. يكتفي الآن بكونه مفكراً وباحثاً، ينعزل في حيزه الضيّق الخاص  ليكتب ويتأمل.

عندما أجرت معه مجلة Nouvel Observateur  مقابلة في العام 1992، كتب محررها أن ريجيس دوبريه كان محبطا في ذلك اليوم، لأنه اكتشف في عشيته وفي أرشيف التوسير نسخة عن أول بحث قام به في اول سنة دراسية له في شارع ULM سنة 1961. كان موضوع البحث: "القسوة" والمصحح لويس التوسير وضع له علامة 17. وكتب مادحاً: " لاتخف أن تخسر نفسك إن أنت انخرطت في الفلسفة... لديك الموهبة وبعض العبقرية...يمكنك أن تكون فيلسوفاً وحراً".

هذه الرسالة المحرّرة قبل 31 عاماً، سببت لريجيس دوبريه صدمة وإحباط. قال لمحدثه متأملاً بصوت خفيض: "كما لو أن حياتي كانت وعداً لم يُحافظ عليه. فيلسوف: لم أكنه إلا بشكل متقطع ولم أعرف في حياتي سوى فترتين منقطعتين للحرية: سنتي في الفلسفة والسجن. لم أمتلك فضيلة شق طريقي الخاص. خسرت الكثير من الوقت في ممرات السلطة. أن تكتشف بعمر 52 عاما بطلان السياسة لهو أمر يدعو للهزء".

لا يتعلق الأمر فقط بالعلاقة – الإشكالية للمثقفين بالسلطة، يتعلق أيضا بمواضيع اهتمام المثقف، والحيز الذي تطاله في حياة البشر وأفكارهم ومشاعرهم. ولنا من حياة ولهلم رايش Reich أكبر مثال على ذلك، فهو طرد في البداية من الحزب الشيوعي الألماني، ثم عانى من النازية وبعد ذلك هاجر إلى الولايات المتحدة، حيث قضى آخر أيامه في المستشفى العقلي وتوفي فيه "مجنوناً".

ومع ذلك يعد الآن من أهم علماء النفس المعاصرين، وطريقته في العلاج التي اعتمدت على إقامة علاقة إيجابية مع المريض، أي عكس الحياد البارد الفرويدي، هي في أصل العلاجات النفس - فيزيائية الحديثة، وهناك مراكز عديدة ومهمة في العالم تتبع طريقته. هذا بالإضافة الى أنه كان من أبرز من أثّروا في حركات وافكار التحرر الشبابية للستينيات.

إن تأثير المثقف نادراً ما يكون مباشراً، بحيث أن أفكاره لا تُدخل التغيير بشكل مباشر وآني، لكن للأفكار قوة تفوق أي قوة اخرى في العالم، فقط يلزمها الوقت. فترة زمنية ممتدة كي تنتشر ويظهر أثرها، وذلك عندما يكون في هذه الأفكار قدر من الحقيقة. إن مراجعة بسيطة للتيارات الفكرية التي سادت القرن العشرين، أو محاولة عمل قائمة بها، تعطينا ما يلي:

فكرة التطورية، والتي بحسبها نجد أن الأشكال العليا تتطور دون توقف عن الأشكال الأدنى منها.

فكرة التنافس والانتخاب الطبيعي.

الماركسية وفكرتها في أن المظاهر العليا للحياة الإنسانية هي مكملة ضرورية للحياة المادية.

الفرويدية وفكرتها عن اللاوعي، وبأن المظاهر العليا للحياة الإنسانية تختزلها الغرائز اللاواعية وتسيرها.

فكرة النسبية والتي تنفي كل ما هو مطلق.

أخيراً انتصار الوضعية، وفكرتها في أن كل ما هو غير قابل للمراقبة ليس من أبواب العلم.

طبعاً هذه الأفكار السائدة، خصوصاً الأخيرة، هي قيد المراجعة الآن، وليس هذا موضوعنا.

لكن إذا راجعنا هذه الأفكار وفترة بروزها، نلاحظ أنها منبثقة في كليتها تقريباً عن بشر عاشوا في القرن التاسع عشر. وإذا تساءلنا عن أصحابها، من هم! كيف رأوا انفسهم! ماذا كانت علاقاتهم حينها بالسلطة؟ كيف نظر إليهم مجتمعهم؟ وهل كانوا يعتقدون في داخلهم أنهم فلاسفة عظام وأنهم سوف يسيطرون بأفكارهم تلك على أذهان أجيال بأكملها؟ وسوف يؤثرون على مصائر مجتمعات؟

إن هذه الأفكار لم تكن في البداية سوى محصلة سياق ذهني قام به أفراد، غير منقطعين عن أفكار من سبقوهم طبعاً، لكنها لم تكن سوى مجرد أفكار، لزمها مدة زمنية كافية كي تتجمع الأفكار المبعثرة في البداية لتؤدي إلى تيارات فكرية فاعلة. ربما لزم ثلاثة أو أربعة أجيال كي تسيطر أفكار معينة. ونادراً ما يقع من يطلقون هذه الأفكار تحت تأثيرها.

يكتب فاليري بشكل ثاقب ومازح في آن معاً:

"إن مهمة المثقفين هي في وضع كل الأشياء تحت إشاراتها، أسماء أو رموز، بغض النظر عن وقع الأفعال الحقيقية. ينتج عن ذلك أن أقوالهم مدهشة وسياساتهم خطرة ولذاتهم سطحية. إنهم مثيرون اجتماعيون (Excitants)، مع حسنات ومخاطر ذلك. وهم ورثة الكهنة والأنبياء. إنهم معنيون بالبحث عن الحقيقة كما يرى لويس كروز الأميركي.

وينعي مارسيل غوشيه، "عصر اليساري المثقف.. إن السياسة لم تعد في مركز القيادة أنه عصر اللا- إلتزام. لكن بالإمكان أن يكون الفرد مثقفاً ولا مباليا بالسياسة في نفس الوقت".

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.