لبنان يمر بأزمة اقتصادية هي الأسوأ منذ سنوات
لبنان يمر بأزمة اقتصادية هي الأسوأ منذ سنوات

محزن أن تسمع صوت طفل يقول لرفيقه: "تعا نتخيل": بلد حلو يحبه الآخرون، وبلد بتفتح حنفية فيها ماي وبتشرب، بتشرب قد ما بدك.. ولو أهلنا بيرجعوا يشتغلوا ومنرجع عالمدرسة وما بعود فيه زعران يقوصوا علينا رصاص طائش، وإذا ستي مرضت نقدر نجبلها دوا حتى ما تطلع عالسما، تعا نحلم.. يختتم الشريط بصوت بالغ: هذه حقوق وليست أحلام.  

نعم تحولت حقوق اللبنانيين إلى أحلام مستحيلة. 

الموظفة الشابة في مكتب شركة لبنانية كبرى تشكو للزبون: جيلنا لا يعيش. لم نعد نستطيع شراء شيء، نركض لنشتري ما سمعنا أنه أرخص. كانت سُفرِتنا في الأعياد عامرة، الآن بالكاد نشتري الحلوم والقشقوان. صرنا نأكل المصاري.  

 إحدى قواعد التربية، لطفل مستقر وبصحة نفسية جيدة، الشعور بالأمن. وذلك بتوقع ما سيحصل غداً انطلاقاً مما حصل بالأمس ويحصل اليوم. الشعور بالأمن الذي يجلبه ثبات المحيط وروتين السلوك. وما يسري على الأفراد يسري على الجماعات. في لبنان غاب الأمن وغاب الاستقرار ويستحيل توقع أحداث الغد. وهذا أسوأ وأخطر ما يمكن أن يعيشه الكائن. 

عندما وصلت إلى مونريال الصيف الفائت بعد غياب عامين، أول ما لفت نظري ثبات الأسعار كما كانت قبل عامين. بقي سعر زجاجة نبيذ أحبها هو نفسه بالسنتيمات. وتصدرت زيادة سعر كيلو اللحم بربع دولار الصحف. سعر القهوة الفيلتر الطليانية أرخص في مونريال عنها في بيروت حالياً ومع انهيار الاقتصاد. سعر إحدى منتجات شول في مونريال 12 دولار كندي، في صيدليات بيروت 15 دولار أميركي. وقس على ذلك.  

فقدنا القدرة على تقييم كلفة الحاجات الأساسية. الأسعار تتصاعد كل يوم، فيستحيل معها التخطيط. صرنا تحت رحمة القدر والدولار والتجار والمصارف واللاحكومة في اللادولة، بإشراف طبقة تفعل السبعة وذمتها للبقاء. تمثيليات خلاف وحفلات شتائم وفك تحالفات وإعادة تركيبها وتسابق على سرقة شعارات الثورة، تحسباً للانتخابات التي اعتادوا على عرقلتها إلى حد إلغائها.  

إنه الذل اليومي محروساً ومصاناً من قبل من انتخبوا باسم الشعب، الذي يهجُر مهرولاً بالآلاف شهرياً. هذا هو لبنان الذي يفتخر به خطباء "المقاومة"؛ لكن المرفوض من غالبية اللبنانيين. 

حدثان بوليسيان طبعا الأسبوع الماضي، غضبة الرئيس ميقاتي التي أدهشت اللبنانيين المستبشرين بأنه سيتصرف أخيراً كرئيس للحكومة!! لكنها "غضبة في فنجان" جلّدها صقيع كانون. ثم جاءهم الsuspense " في الحديث - القنبلة الموعودة للرئيس. ذهبت ظنونهم أنها ليست أقل من استقالة قد تخفف من جهنم التي وعدهم بها ووفى؛ خصوصاً بعد أن قدّر الفترة المطلوبة للتعافي ب 6 أو سبع سنوات إضافية!! قرأها بعض المغرضين على أنها فترة الصهر الرئاسية المقبلة، لا سمح الله. 

لكن تبين أن القنبلة مجرد فتيشة ألعاب نارية، اختبأت في عباءة "الاستراتيجية الدفاعية" المنتظرة منذ أكثر من خمس سنوات، وأعاد الحياة لثلاثية "جيش- شعب- مقاومة"، التي كانت اختفت؛ إلى جانب مواعظ فيما يجب أن تكون عليه الدولة!!  

علّق الكوميدي نعيم حلاوي: "عم يسألنا كل سؤال أكبر من التاني.. والله يا خيي ما منعرف بلكي هلق منعمل اجتماع طارئ للشعب". لكن سمير عطالله ذكّرنا: "بقائد جيش يشكل حكومة من وزيرين ويقصف بيروت في كل اتجاه، ويفتش عن أقوى رأس في المنطقة فيقرر أن يكسره".

استنتج صديق ساخراً: وجود محوران متحاربان في لبنان: الأول "العميل" الأميركي- السعودي الذي يريد ارتهان لبنان للخارج، والثاني "الوطني" بزعامة "الحزب الإيراني" الذي يدافع عن سيادة لبنان وحقوق مواطنيه ودولتهم!!  

وعلى هذا المنوال ينفي رئيس الحكومة ارتهان الدولة، لعلّه يضع نظارة سوداء عند مروره بصور قتلى الاحتلال الإيراني، الذين لا تجرؤ طهران على استفزاز الإيرانيين بتعليقها على طريق مطارها، فتعلقهم عندنا. 

أصبح ارتهان الشعب لطبقة سياسية تأتمر بأوامر حزب الله الخاضع بدوره لسلطة تحتل لبنان بواسطته، يشكل عبئاً ثقيلاً على اللبنانيين ويضعهم أمام تحديات غير مسبوقة؛ إذ يجعلهم شركاء الحزب في حروبه واعتداءاته على أمن واستقرار السعودية ودول الخليج. فكيف سيتعامل اللبنانيون معه وأي موقف!! هل المطلوب عزله؟ أو الانفصال عنه؟ وكيف؟ خصوصاً أنه يخرق المادة ١٢ من إعلان بعبدا التي تنص على تحييد لبنان عن نزاعات وحروب المنطقة!! وقد سُجّل الإعلان كوثيقة رسمية في جامعة الدول العربية والأمم المتحدة بموافقته وتوقيعه؟ 

في هذا السياق، تداعى مواطنون لبنانيون لتشكيل مجلس وطني لإنقاذ لبنان من الاحتلال، الذي لا يتحقق سوى بإنجاز الوحدة الوطنية، بين مكوّنيه الأساسيين، المسيحي – المسلم. وكما حصل منذ الاستقلال مروراً بالميثاق الوطني وصولاً إلى دستور واتفاق الطائف الذي أرسى الميثاق مطوراً: لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، عربي الهوية والانتماء.  

المطلوب الآن حشد الطاقات لحوار وطني جامع بين المكونات المستقلة التي تسعى إلى تحرير لبنان وتحقيق السيادة والوحدة الوطنية. على غرار ما حصل عند إخراج الجيش السوري من لبنان.  

تبين تجارب الماضي وطبيعة لبنان بتنوعه الطائفي والسياسي، أن السيادة تنتقص كلما اختلفت مكوناته الطائفية. فكلما اهتزت الوحدة الداخلية أو تراجعت، تراجع الاستقلال والسيادة. وحده المشروع الذي يجمع مكونات لبنان المتعددة يحفظ السيادة والعيش المشترك. إن استدعاء أي فريق داخلي للخارج كي يشكل معه مشروع غلبة على حساب العيش المشترك والوحدة الداخلية، يؤدي إلى انتقاص السيادة والاستقلال. 

لن يتحقق مطلب رفع يد الاحتلال الايراني عن لبنان إذا كان مختصا بطائفة أو جماعة واحدة أو حزب أو فريق سياسي. المجلس الوطني المقترح يهدف إلى كسب الرأي العام بمختلف مكوناته. وأحد أهم وظائفه وأهدافه جمع الطاقات بهدف إعادة تكوين الوحدة الداخلية من خلال الالتفاف حول النصوص المرجعية أي الدستور اللبناني ووثيقة الطائف. كما يعنى بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية: 1701 و1680 و1559.  

قد يقول قائل: أهذا هو حلّكم السحري؟ نعم، فالموقف سلاح على ما صرّح الشيخ راغب حرب في سني المقاومة الحقيقية. 

وهنا يجدر التنويه بالمذكرة التي قدمها عصام خليفة وزميلته إلى الامين العام للأمم المتحدة غوتيريس عن خطر تحلل الدولة اللبنانية جرّاء سلوك المسؤولين فيها ومحاولة بعضهم تعطيل دور القضاء في كشف جريمة انفجار مرفأ بيروت. سياساتهم تحمل خطر إحداث مجاعة للشعب اللبناني وتهجيره. لذا خلصت المذكرة إلى مناشدة الأمم المتحدة العمل على تطبيق القرارات الدولية (1701، 1559، 1680)، وكل الاتفاقيات الدولية ذات الصلة، ولاسيما اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.