بسنت خالد أثارت قضية التنمر الإلكتروني
بسنت خالد أثارت قضية التنمر الإلكتروني

بسنت، بنت عمرها 17 عاما من قرية كفر يعقوب، بمحافظة الغربية بدلتا مصر. تعرضت للابتزاز الإلكتروني من شخص أقل ما يُوصف به أنه حقير. استخدم صورها الموجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، وعدّلها أو ركبها على صور أخرى عارية. بدأ بعدها في تهديدها بنشر الصور على السوشيال ميديا، حتى يجبرها على إقامة علاقة معه.

رفضت البنت، فنشر المجرم الصور بالفعل. فجأة وجدت البنت نفسها وحيدة في مواجهة أهل قريتها، وأهلها الذين لم يقدموا لها الدعم النفسي المطلوب في موقف قاس مثل هذا. شعرت أن عالمها ينهار، بعد أن تعرضت لمشاعر ذنب وعار فاقت قدرتها على التعامل معهم، وعلى إثر ذلك قررت إنهاء حياتها.

تركت بسنت رسالة قصيرة لأمها، قبل أن تتناول حبة الغلال السامة، التي أنهت حياتها. قالت فيها: "ماما ياريت تفهميني أنا مش البنت دي وإن دي صور متركبة والله العظيم وقسمًا بالله دي ما أنا، أنا يا ماما بنت صغيرة مستهلش اللي بيحصلي ده أنا جالي اكتئاب بجد، أنا يا ماما مش قادرة أنا بتخنق، تعبت بجد.. مش أنا حرام عليكم أنا متربية أحسن تربية".

هذا هو ملخص ما حدث وشغل الرأي العام في مصر في ثالث أيام العام الجديد. ولكن من الجاني؟ من المسؤول عن قتل بسنت؟ بالطبع هي انتحرت ولم تُقتل بالمعنى الحرفي للكلمة. ولكن الحقيقة أن الفتاة الصغيرة تم اغتيالها معنويًا، قبل أن تقرر إنهاء حياتها بنفسها.

بالتأكيد من ابتزها هو المجرم الأساسي. فالابتزاز جريمة حقيرة، في حالة بسنت كانت الصور مفبركة. ولكن في حالات أخرى يستخدم المبتز صورًا حقيقية، وفي كلا الحالتين الابتزاز جريمة يعاقب عليها القانون وليست فقط خطأً أخلاقيًا بشعًا.

ولكن السؤال الذي يشغلني هنا هو ما هي المسؤولية الأخلاقية لأسرتها وللمجتمع؟ وما هو دور المجتمع القروي المحافظ الذي عاشت فيه، فيما وصلت إليه؟

بداية بحسب الرواية المنشورة في العديد من الصحف والمواقع فإن والدها قد ثار وغضب عندما رأى الصور بدلًا من احتوائها وتقديم الدعم لها. وهو أمر مُتوقع، فالحفاظ على شرف العائلة وشرف القبيلة هو الأهم ألف مرة من الحالة النفسية للبنت، في هذه الثقافة!

نعم، فنحن نلد بناتًا لنحملهم مسؤولية شرف عائلة كاملة. شرف العائلة و"شرف البنت اللي زي عود الكبريت"، هي الأفكار الملعونة التي تتسبب سنويًا في قتل نساء بريئات بحجة "حماية الشرف"، وأي شرف في قتل أب لابنته أو أخ لأخته! هذا بالطبع فضلًا عن تعنيف ملايين النساء في عالمنا العربي سواء كان العنف معنويًا أو جسديًا أو جنسيًا، تحت نفس المبررات.

فمنذ لحظة ولادة المرأة في المجتمع العربي عمومًا، وفي المجتمعات الأكثر محافظة خاصة، كمجتمع القرية الصغيرة الذي عاشت فيه بسنت، تتعرض النساء لكافة أشكال الكبت والعنف والتعنيف. بداية من ماتضحكيش، متتكلميش مع ولاد، متقفيش في البلكونة.. إلخ.

مرورًا بكارثة ختان الإناث، أو تشويه الأعضاء التناسلية. وهي الجريمة التي تهدف إلى قمع وانتهاك حقها في الشعور بالنشوة الجنسية طوال حياتها، والتي لا تزال الكثير من الفتيات تتعرض لها في مصر رغم تجريمها. يقوم بها الأهل بحجة الخوف على البنت. وبحجة الخوف نبتر جزءًا من جسدها. وهنا هو مربط الفرس، فجسد المرأة حرفيًا ومجازيًا في ثقافتنا هو ملك العائلة وليس ملكها.

ووصولًا إلى وضعها تحت ضغط نفسي مُرعب بشكل مزمن بسبب الهوس المستمر بفكرة "سمعة البنت"، لو قال أحدهم هي تعرف فلان ولا ماشية مع علان.

كم بنت تم حرمانها من أن تسافر لتتعلم في محافظة أخرى بحجة الحفاظ عليها من "كلام الناس". وكم امرأة حُرمت من وظيفة حلمت بها لسنوات، لأن الوظيفة تتطلب العمل لوقت متأخر أو السفر. وكم علاقة كانت من الممكن أن تؤدي لزواج سعيد قمعها أهل البنت بحجة إن الشاب غير مستعد، ولا نريد للناس أن تتكلم على بنتنا لو طالت فترة العلاقة أو الخطوبة.

وكم اختيار حر في الحياة والعمل والدراسة تم قمعها، وكم حق من حقوق المرأة تم انتهاكهم، وكم حياة كان من الممكن أن تكون مشبعة ومليئة بالبهجة تحولت لسجن تحت اسم "كلام الناس".

نحن لا نولد في الشرق الأوسط متساويين في الحقوق على الإطلاق. فنحن كرجال نمتلك امتيازات، ولنا حقوق تُحرم منها أغلب النساء، فقط لأنهنّ ولدنّ نساءً في مجتمع يتعامل معهنّ على أنهنّ بشر من الدرجة الثانية.

نعم من ابتز بسنت هو المجرم الرئيسي في هذا القضية. ولكن الحقيقة هي أن المجتمع ككل يضع سكينة على رقبة كل فتاة اسمها السمعة وكلام الناس. سكينة جاهزة، ولا يحتاج المبتز إلا أقل القليل ليستخدمها ضد ضحيته المسكينة.

دعني أذكرك بقصة #المغتصب_أحمد_بسام_زكي، الذي اغتصب وتعدى على عشرات الضحايا من البنات. أحمد كان له استراتيجية بسيطة ولكنها ناجحة في الإيقاع بضحاياه. يستدرجهنّ لمنزله، يعتدي عليهنّ ثم يهددهنّ بنشر الصور لو تكلموا، وبالتالي فهنّ مجبرات على الاستمرار. نجاحه كله مرتبط بفكرة خوف البنت من افتضاح أمرها ورد فعل المجتمع في حال تم نشر صور جسدها. 

بسنت الصغيرة المسكينة ذهبت بكل هدوء بعد صلاة الجمعة لتشتري قرص غلة سام، ثم عادت إلى بيتها لتتناوله وتنهي حياتها في صمت. اختارت الموت وهي في مُقتبل العمر، فقط لتهرب من كلام الناس. ببساطة، لأن الألم النفسي والاجتماعي الذي يضعه المجتمع القروي المحافظ من نبذ وقهر واحتقار شديد ونظرة دونية في حال "تلويث سمعة" هذه الفتاة، لا يمكن تحمله، خصوصًا لفتاة في مثل هذا العمر الصغير. 

نعم من ابتزها يستحق أقسى عقوبة، ولكننا أيضا لسنا أبرياء! 

كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.
كرماشيفا محتجزة في روسيا منذ شهر أكتوبر الماضي.

على بعد نحو ساعة بالسيارة عن مدينة دريسدن تقع باوتسن، التي كانت تعد موطنا لمرفق سيئ السمعة في القرن الماضي، ألا وهو سجن معروف باسم المدينة نفسها. 

من عام 1933 إلى 1945، استخدم النازيون سجن "باوتسن" مقرا "للحجز الوقائي" قبل نقل المحتجزين إلى معسكرات الاعتقال. 

وفي الحقبة الممتدة من 1945 إلى 1949، احتجزت سلطات الاتحاد السوفياتي السابق المنشقين في زنزانات مكتظة مع القليل من الطعام والماء، وانتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب. 

وبعد عام 1949، استخدم عناصر "ستاسي"، وهو جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقا، الذين دربهم جهاز الاستخبارات السوفياتية  "كي.جي.بي"، الأسلوب عينه إزاء حوالي ألفي معتقل سياسي في "باوتسن". 

هذا هو عالم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في عصرنا الحالي، هو الذي كان عضوا في في جهاز الاستخبارات السوفييتية، حين انضم للجهاز عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره، وقضى عدة سنوات في دريسدن.

ومنذ أيامه الأولى، وباعترافه الشخصي، كان بوتين يحلم بالعنف والسيطرة. 

واليوم تواجه، آلسو كرماشيفا، الصحفية الروسية-الأميركية التي تعمل لحساب إذاعة أوروبا الحرة الممولة من الكونغرس الأميركي، نفس المصير الذي واجه أصحاب القلم والفكر الحر في القرن الماضي خلال حقبة الاتحاد السوفياتي.

فمنذ شهر أكتوبر الماضي، تقبع كرماشيفا في زنزانة باردة وسيئة الإضاءة ومكتظة في مدينة قازان الروسية، التي تبعد نحو 800 كيلومترا شرقي موسكو. 

وتعرضت كرماشيفا للضغط من أجل انتزاع الاعترافات منها، وهو نهج كان مترسخا عند الـ"كي.جي.بي" الذي يعتبر الفكر المستقل تهديدا، والصحافة الحرة جريمة. 

سافرت كرماشيفا، وهي أم لطفلتين، الصيف الماضي إلى قازان من مسقط رأسها في براغ، لزيارة والدتها المسنة واعتقدت أنها ستكون في مأمن. 

في الثاني من يونيو الماضي، وعندما كانت في مطار قازان، استعدادا لرحلة العودة، جرى استدعاء كرماشيفا قبل خمس عشرة دقيقة من صعودها إلى الطائرة.  

اعتقلتها السلطات الروسية واتهمتها بعدم تسجيلها جواز سفرها الأميركي في روسيا، لتتم إعادتها إلى منزل والدتها وحكم عليها بغرامة تقدر بـ100 دولار تقريبا. 

وفي سبتمبر الماضي، اتهمت السلطات الروسية كرماشيفا بعدم التصريح عن نفسها بصفتها "عميلة لجهة أجنبية".  

وفي 18 أكتوبر، اقتحمت مجموعة من الملثمين المنزل واعتقلت كرماشيفا، وجرى تقييدها ومن ثم نقلها لمحتجز للاستجواب.  

وتعد النيابة العامة الروسية قضية ضدها بحجة نشرها معلومات كاذبة عن الجيش الروسي، وهو أمر ليس صحيحا. 

فخلال فترة عملها في إذاعة أوروبا الحرة محررة باللغة التتارية، دأبت كرماشيفا على إعداد تقارير عن اللغة والعرق والمجتمع المدني وحقوق الأقليات. 

وتتحدر كرماشيفا، وهي مسلمة، من قازان عاصمة جمهورية تتارستان المنضوية ضمن الاتحاد الروسي وتضم حوالي 50 في المئة من التتار ذوي الأصول التركية. 

ويسعى بوتين إلى جمع رهائن أميركيين لمبادلهم مع معتقلين روس. فخلال السنوات الماضية، اعتقلت روسيا نجمة كرة السلة الأميركية، بريتني غرينر، قبل أن يتم إطلاق سراحها مقابل إطلاق واشنطن تاجر الأسلحة الروسي، فيكتور بوت، في ديسمبر 2022. 

ولا تزال أسهم بوتين في التفاوض تشمل كرماشيفا ومراسل صحيفة وول ستريت جورنال، إيفان غيرشكوفيتش، وجندي البحرية السابق، بول ويلان.  

ولتخفيف العزلة وتمهيد الطريق للعودة إلى الوطن، لدى إيفان وبول عاملين، لا تزال كرماشيفا تكافح من أجل الحصول عليهما، أولا الحصول على الخدمات القنصلية، وثانيا اعتراف من وزارة الخارجية الأميركية بأنها  "محتجزة بشكل غير مشروع"، وهو ما سيزيد من فرص إطلاق سراحها في عملية لتبادل المعتقلين. 

ماذا يريد بوتين؟ 

إذا كان الأمر يتعلق بصفقات التبادل، فمن الواضح أن الكرملين يريد، فاديم كراسيكوف، الذي يقبع في أحد السجون الألمانية. 

كراسيكوف، الذي عمل سابقا لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، هو قاتل مأجور أقدم على اغتيال معارض شيشاني وسط برلين في أغسطس 2019، بإطلاق رصاصتين على رأسه من مسدس مزود بكاتم للصوت. 

لن يكن الأمر سهلا على الإطلاق، ولكن في الماضي كان من الممكن أن تكون الأمور أكثر وضوحا في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، أراد الشيوعيون في ألمانيا الشرقية الحصول على أموال من الألمان الغربيين.  

وبحلول أواخر حقبة الشيوعية في الثمانينيات، كان نحو 85 ألف مارك ألماني غربي (حوالي 47 ألف دولار) هو ثمن شراء سجين واحد من ألمانيا الشرقية.  

زرت سجن باوتسن قبل وباء كورونا، حيث تحول اليوم إلى متحف ونصب تذكاري. 

وعندما رأيت زنزانة كانت تحتجز فيها شابة من سكان برلين الغربية دأبت على تهريب منشورات سياسية عبر الحدود لمساعدة الناشطين في ألمانيا الشرقية، أصيب بالذعر. 

وأثارت قصة، هايكه فاتيركوت، هلعي، فقد تم اعتقال الشابة البالغة من العمر عشرين عاما في ديسمبر 1976، وبعد ثمانية أشهر من الاعتقال، حُكم عليها بالسجن لمدة أربع سنوات وعشرة أشهر في باوتسن بتهمة التحريض ضد الدولة. 

كانت تلك كانت ثقافة الـ"كي.جي.بي" في ذلك الوقت. ويتعين علينا أن نعمل بجد أكبر لإنقاذ الأبرياء، وبالتأكيد المواطنين الأميركيين مثل كرماشيفا، من دولة الـ"كي.جي.بي" اليوم. 

#هذا المقال كتبه الرئيس التنفيذي المكلف بشكل مؤقت لـ"شبكة الشرق الأوسط للإرسال" (MBN) عضو المجلس الاستشاري للبث الدولي،  الرئيس السابق لإذاعة أوروبا الحرة، جيفري غدمن، في 23 يناير الماضي بمناسبة مرور 100 يوم على احتجاز روسيا لصحافية أميركية-روسية، قارن فيه بين ما جرى في تلك الفترة والتكتيكات التي باتت موسكو تتبعها في عهد بوتين.